للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَا أُوتِيَ أَحَدٌ مِنَ النِّعَمِ فِي زَمَانِ قَوْمِ مُوسَى مَا أُوتُوا، خُصُّوا بِفَلْقِ الْبَحْرِ لَهُمْ، وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَإِخْرَاجِ الْمِيَاهِ الْعَذْبَةِ مِنَ الْحَجَرِ، وَمَدِّ الْغَمَامِ فَوْقَهُمْ.

وَلَمْ تُجْمَعِ النُّبُوَّةُ وَالْمُلْكُ لِقَوْمٍ كَمَا جُمِعَا لَهُمْ، وَكَانُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ هُمُ الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَنْصَارُ دِينِهِ انْتَهَى. وَإِنَّ الْمُرَادَ كَثْرَةُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ خُصُوصَاتُ مَجْمُوعِ آيَاتِ مُوسَى.

فَلَفْظُ الْعَالِمِينَ مُقَيَّدٌ بِالزَّمَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ أمة محمد قَدْ أُوتِيَتْ مِنْ آيَاتِ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ:

قَدْ ظُلِّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَمَامَةٍ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، وَكَلَّمَتْهُ الْحِجَارَةُ وَالْبَهَائِمُ، وَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الشَّجَرَةُ، وَحَنَّ لَهُ الْجِذْعُ، ونبع الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَشَبِعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قَلِيلِ الطَّعَامِ بِبَرَكَتِهِ، وَانْشَقَّ لَهُ الْقَمَرُ، وعد الْعُودُ سَيْفًا، وَعَادَ الْحَجَرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْخَنْدَقِ رَمْلًا مَهِيلًا

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ آيَاتِهِ الْعُظْمَى وَمُعْجِزَاتِهِ الْكُبْرَى. وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ هِيَ تَوْطِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَتَقَدُّمٌ إِلَيْهِمْ بِمَا يُلْقِي مِنْ أَمْرِ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ لِيَقْوَى جَأْشُهُمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ لَا يَخْذُلُهُ اللَّهُ، بَلْ يُعْلِيهِ عَلَى عَدُوِّهِ وَيَرْفَعُ مِنْ شَأْنِهِ، وَيَجْعَلُ لَهُ السَّلْطَنَةَ وَالْقَهْرَ عَلَيْهِ.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَآتَاكُمْ، ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا شَرَحْنَاهُ، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لَهُمْ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ خِطَابٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتَهَى الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ لَمَا ذَكَّرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ، ذَكَّرَ اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الظَّاهِرَةِ جَبْرًا لِقُلُوبِهِمْ، وَأَنَّهُ آتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ بِالْعَالَمِينَ الْعُمُومُ، فَإِنَّ اللَّهَ فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَآتَاهُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ مَا لَمْ يُسْبِغْهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ جَرِيرٍ وَهُوَ اخْتِيَارُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا ضُعِّفَ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ مِنَ خِطَابِ مُوسَى لِقَوْمِهِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَهُ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ عَلَى قَانُونِ كَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الِالْتِفَاتِ وَالْخُرُوجِ مِنْ خِطَابٍ إِلَى خِطَابٍ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ لَا يُنَاسِبُ مَنْ خُوطِبَ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ مَنْ وُجِّهَ إِلَيْهِ ثَانِيًا، فَيُقَوِّي بِذَلِكَ تَوْجِيهَ الْخِطَابِ إِلَى الثَّانِي إِذَا حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: يَا قَوْمُ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَكَذَا حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَهَذَا الضَّمُّ هُوَ عَلَى مَعْنَى الْإِضَافَةِ، كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: قُلْ رَبُّ احْكُمْ بِالْحَقِّ بِالضَّمِّ وَهِيَ إِحْدَى اللُّغَاتِ الْخَمْسِ الْجَائِزَةِ فِي الْمُنَادَى المضاف لياء المتكلم.

يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُقَدَّسَةُ الْمُطَهَّرَةُ، وَهِيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>