للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ يَحْتَمِلُ إِثْمَ قَتْلِهِ لَهُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «١» ؟ (قُلْتُ) : الْمُرَادُ بِمِثْلِ إِثْمِي عَلَى الِاتِّسَاعِ فِي الْكَلَامِ كَمَا تَقُولُ: قَرَأْتُ قِرَاءَةَ فُلَانٍ، وَكَتَبْتُ كِتَابَتَهُ، تُرِيدُ الْمِثْلَ وَهُوَ اتِّسَاعٌ فَاشٍ مُسْتَفِيضٌ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ غَيْرُهُ. (فَإِنْ قُلْتَ) : فَحِينَ كَفَّ هَابِيلُ عَنْ قَتْلِ أَخِيهِ وَاسْتَسْلَمَ وَتَحَرَّجَ عَمَّا كَانَ مَحْظُورًا فِي شَرِيعَتِهِ مِنَ الدَّفْعِ، فَأَيْنَ الْإِثْمُ حَتَّى يَتَحَمَّلَ أَخُوهُ مِثْلَهُ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْإِثْمَانِ؟ (قُلْتُ) : هُوَ مُقَدَّرٌ فَهُوَ يَتَحَمَّلُ مِثْلَ الْإِثْمِ الْمُقَدَّرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِمِثْلِ إِثْمِي لَوْ بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدِي انْتَهَى. وَقِيلَ: بِإِثْمِي، الَّذِي يَخْتَصُّ بِي فِيمَا فَرَطَ لِي، أَيْ: يُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِي فَتُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي، وَتَبُوءُ بِإِثْمِكَ فِي قَتْلِي. وَيُعَضِّدُ هَذَا

قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ فَيُزَادُ فِي حَسَنَاتِ الْمَظْلُومِ حَتَّى يَنْتَصِفَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ»

وَتَلَخَّصَ مِنْ قَوْلِهِ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بِإِثْمِي اللَّاحِقِ لِي، أَيْ: بِمِثْلِ إِثْمِي اللَّاحِقِ لِي عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ قَتْلِي لَكَ، وَإِثْمِكَ اللَّاحِقِ لَكَ بسبب قتلي. الثاني: بِإِثْمِي اللَّاحِقِ لَكَ بِسَبَبِ قَتْلِي، وَأَضَافَهُ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لَهُ، وَإِثْمِكَ اللَّاحِقِ لَكَ قَبْلَ قَتْلِي. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِرَادَةِ الْمَجَازِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ. وَقِيلَ الْمَعْنَى عَلَى النَّفْيِ، التَّقْدِيرُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ لَا تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ كَقَوْلِهِ: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ «٢» أَيْ أَنْ لَا تَمِيدَ، وأن تَضِلُّوا أَيْ: لَا تَضِلُّوا، فَحَذَفَ لَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِرَارٌ مِنْ إِثْبَاتِ إِرَادَةِ الشَّرِّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَضَعَّفَ القرطبي هذا الوجه

بقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»

فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ إِثْمَ الْقَاتِلِ حَاصِلٌ انْتَهَى. وَلَا يُضَعَّفُ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، لِأَنَّ قَائِلَ هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ إِرَادَتِهِ الْقَتْلَ أَنْ لَا يَقَعَ الْقَتْلُ، بَلْ قَدْ لَا يُرِيدُهُ وَيَقَعُ. وَنَصَرَ تَأْوِيلَ النَّفْيِ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَبِيحٌ، وَإِرَادَةُ الْقَبِيحِ قَبِيحَةٌ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَقْبَحُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ أَنَّى أُرِيدُ، أَيْ كَيْفَ أُرِيدُ؟ وَمَعْنَاهُ اسْتِبْعَادُ الْإِرَادَةِ وَلِهَذَا قَالَ، بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذَا استفهام عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ، أَيْ: أَنَّى، فَحَذَفَ الْهَمْزَةَ لِدَلَالَةِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ إِرَادَةَ الْقَتْلِ مَعْصِيَةٌ حَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ انْتَهَى. وَهَذَا كُلُّهُ خُرُوجٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ إِيضَاحُ الْإِرَادَةِ، وَجَوَازُ وُرُودِهَا هُنَا، وَاسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ كَافِرًا لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ إِنَّمَا وَرَدَ في


(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٦٤.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>