الْقُرْآنِ فِي الْكُفَّارِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَقْوَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لِأَنَّهُ يُكَنَّى عَنِ الْمُقَامِ فِي النَّارِ مُدَّةً بِالصُّحْبَةِ.
وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أَيْ وَكَيْنُونَتُكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ جَزَاؤُكَ، لِأَنَّكَ ظَالِمٌ فِي قَتْلِي. وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: الظَّالِمِينَ، عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقَتْلِ، وَأَنَّهُ قَتْلٌ بِظُلْمٍ لَا بِحَقٍّ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ هَابِيلَ نَبَّهَهُ عَلَى الْعِلَّةِ لِيَرْتَدِعَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا حِكَايَةُ كَلَامِ هَابِيلَ، بَلْ إِخْبَارٌ مِنْهُ تَعَالَى لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ. وَقَالَ أَيْضًا هُوَ وَمُجَاهِدٌ: شَجَّعَتْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: زَيَّنَتْ لَهُ. وَقَالَ الْأَخْفَشِ: رَخَّصَتْ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: مِنَ الطَّوْعِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: طَاعَ لَهُ كَذَا أَيْ أَتَاهُ طَوْعًا. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَابَعَتْهُ وَانْقَادَتْ لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَّعَتْهُ لَهُ وَيَسَّرَتْهُ، مِنْ طَاعَ لَهُ الْمَرْتَعُ إِذَا اتَّسَعَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَهُوَ فِعْلٌ مِنَ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ، كَأَنَّ الْقَتْلَ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مُتَعَاصِيًا. وَأَصْلُهُ:
طَاعَ لَهُ قَتْلُ أَخِيهِ أَيِ انْقَادَ لَهُ وَسَهُلَ، ثُمَّ عُدِّيَ بِالتَّضْعِيفِ فَصَارَ الْفَاعِلُ مَفْعُولًا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَتْلَ فِي نَفْسِهِ مُسْتَصْعَبٌ عَظِيمٌ عَلَى النُّفُوسِ، فَرَدَّتْهُ هَذِهِ النَّفْسُ اللَّحُوحُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ طَائِعًا مُنْقَادًا حَتَّى أَوْقَعَهُ صَاحِبُ هَذِهِ النَّفْسِ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْجَرَّاحُ، وَالْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ، وَأَبُو وَاقِدٍ: فَطَاوَعَتْهُ، فَيَكُونُ فَاعَلَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ نَحْوَ: ضَارَبْتُ زَيْدًا، كَأَنَّ الْقَتْلَ يَدْعُوهُ بِسَبَبِ الْحَسَدِ إِصَابَةَ قَابِيلَ، أَوْ كَأَنَّ النَّفْسَ تَأْبَى ذَلِكَ وَيَصْعُبُ عَلَيْهَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ أَنْ يُطِيعَهُ الْآخَرُ، إِلَى أَنْ تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَطَاوَعَتِ النَّفْسُ الْقَتْلَ فَوَافَقَتْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَنْ يَكُونَ مِمَّا جَاءَ مِنْ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَأَنْ يُرَادَ أَنْ قَتَلَ أَخِيهِ، كَأَنَّهُ دَعَا نَفْسَهُ إِلَى الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ فطاوعته ولم تمتنع، وله لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ كَقَوْلِكَ: حَفِظْتُ لِزَيْدٍ مَالَهُ انْتَهَى. فَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ: ضَاعَفْتُ وَضَعِفْتُ مِثْلَ: نَاعَمْتُ وَنَعِمْتُ.
وَقَالَ: فَجَاءُوا بِهِ عَلَى مِثَالِ عَاقَبْتُهُ، وَقَالَ: وَقَدْ يَجِيءُ فَاعَلْتُ لَا يُرِيدُ بِهَا عَمَلَ اثْنَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَيْهِ الْفِعْلَ كَمَا بَنَوْهُ عَلَى أَفْعَلْتُ، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً مِنْهَا عَافَاهُ اللَّهُ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ، أَغْفَلَهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي التَّصْرِيفِ: كَابْنِ عُصْفُورٍ، وَابْنِ مَالِكٍ، وَنَاهِيكَ بِهِمَا جَمْعًا وَاطِّلَاعًا، فَلَمْ يذكرا أَنَّ فَاعَلَ يَجِيءُ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَلَا فَعَلَ بِمَعْنَى فاعل. وقوله: وله لِزِيَادَةِ الرَّبْطِ، يَعْنِي: فِي قَوْلِهِ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ، يَعْنِي: أَنَّهُ لَوْ جَاءَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute