للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَطَوَّعَتْ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ لَكَانَ كَلَامًا تَامًّا جَارِيًا عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا جِيءَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ زِيَادَةِ الرَّبْطِ لِلْكَلَامِ، إِذِ الرَّبْطُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ. كَمَا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ: حَفِظْتُ مَالَ زَيْدٍ كَانَ كَلَامًا تَامًّا فَقَتَلَهُ، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ قَتَلَهُ وَتَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَشْيَاءَ مِنْ كَيْفِيَّتِهِ، وَمَكَانِ قَتْلِهِ، وَعُمْرِهِ حِينَ قُتِلَ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ، وَلَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أَصْبَحَ: بِمَعْنَى صَارَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أُقِيمَ بَعْضُ الزَّمَانِ مَقَامَ كُلِّهِ، وَخُصَّ الصَّبَاحُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدْءُ النَّهَارِ وَالِانْبِعَاثِ إِلَى الْأُمُورِ وَمَظِنَّةُ النَّشَاطِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّبِيعِ: أَصْبَحْتُ لَا أَحْمِلُ السِّلَاحَ وَلَا. وَقَوْلُ سَعْدٍ: ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو سَعْدٍ تُعَزِّزُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ تَعْلِيلِ كَوْنِ أَصْبَحَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ، وَأُقِيمَ بَعْضُ الزَّمَانِ مَقَامَ كُلِّهِ بِكَوْنِ الصَّبَاحِ خُصَّ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَدْءُ النَّهَارِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا أَضْحَى وَظَلَّ وَأَمْسَى وَبَاتَ بِمَعْنَى صَارَ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ بَدْءَ النَّهَارِ؟ فَكَمَا جَرَتْ هَذِهِ مَجْرَى صَارَ كَذَلِكَ أَصْبَحَ لَا لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ فِي الدُّنْيَا بِإِسْخَاطِ وَالِدَيْهِ وَبَقَائِهِ بِغَيْرِ أَخٍ، وَفِي الْآخِرَةِ بِإِسْخَاطِ رَبِّهِ وَصَيْرُورَتِهِ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مِنَ الْخَاسِرِينَ لِلْحَسَنَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: مِنَ الْخَاسِرِينَ أَنْفُسَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ إِيَّاهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خُسْرَانُهُ أَنْ عُلِّقَتْ إِحْدَى رِجْلَيِ الْقَاتِلِ لِسَاقِهَا إِلَى فَخْذِهَا مِنْ يَوْمِئِذٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُ مَا دَارَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّيْفِ حَظِيرَةٌ مِنْ نَارٍ وَعَلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ حَظِيرَةٌ مِنْ ثَلْجٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:

وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ عُقُوبَتَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَاصٍ لَا كَافِرٌ، فَيَكُونُ خُسْرَانَهُ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ:

مِنَ الْخَاسِرِينَ بِاسْوِدَادِ وَجْهِهِ، وَكُفْرِهِ بِاسْتِحْلَالِهِ مَا حُرِّمَ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ. وَثَبَتَ

فِي الْحَدِيثِ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» .

وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا لَنَجِدُ ابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ يُقَاسِمُ أَهْلَ النَّارِ قِسْمَةً صَحِيحَةً فِي الْعَذَابِ عَلَيْهِ شِطْرُ عَذَابِهِمْ.

فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ

رُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَمَّا قَتَلَهُ تَرَكَهُ بِالْعَرَاءِ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِهِ، فَخَافَ السِّبَاعَ فَحَمَلَهُ فِي جِرَابٍ عَلَى ظَهْرِهِ سَنَةً حَتَّى أَرْوَحَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ السِّبَاعُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، فَحَفَرَ لَهُ بِمِنْقَارِهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْحُفْرَةِ فَقَالَ: يَا وَيْلَتَى أَعْجَزْتُ.

وَقِيلَ: حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ. وَقِيلَ: طَلَبَ فِي ثَانِي يَوْمٍ إِخْفَاءَ قَتْلِ أَخِيهِ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا إِلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ، فَجَعَلَ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ وَيُلْقِي التُّرَابَ

<<  <  ج: ص:  >  >>