للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الْغُرَابِ الْمَيِّتِ. وَقِيلَ: بَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا وَاحِدًا فَجَعَلَ يَبْحَثُ وَيُلْقِي التُّرَابَ عَلَى هَابِيلَ.

وَرُوِيَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَيِّتٍ مَاتَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ،

وَكَذَلِكَ جَهِلَ سُنَّةَ الْمُوَارَاةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غُرَابٌ بَعَثَهُ اللَّهُ يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَ قَابِيلَ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ هَابِيلَ، فَاسْتَفَادَ قَابِيلُ بِبَحْثِهِ فِي الْأَرْضِ أَنْ يَبْحَثَ هُوَ فِي الْأَرْضِ فَيَسْتُرَ فِيهِ أَخَاهُ، وَالْمُرَادُ بِالسَّوْءَةِ هُنَا قِيلَ: الْعَوْرَةُ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مُوَارَاةُ جَمِيعِ الْجَسَدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا، وَلِأَنَّ سَتْرَهَا أَوْكَدُ. وَقِيلَ: جَمِيعُ جِيفَتِهِ. قِيلَ: فَإِنَّ الْمَيِّتَ كُلَّهُ عَوْرَةٌ، وَلِذَلِكَ كُفِّنَ بِالْأَكْفَانِ. قَالَ ابْنُ عطية: ويحتمل أن يراد بِالسَّوْءَةِ هَذِهِ الْحَالَةُ الَّتِي تَسُوءُ النَّاظِرَ بِمَجْمُوعِهَا، وَأُضِيفَتْ إِلَى الْمَقْتُولِ مِنْ حَيْثُ نَزَلَتْ بِهِ النَّازِلَةُ، لَا عَلَى جِهَةِ الْغَضِّ مِنْهُ، بل الغض لا حق لِلْقَاتِلِ وَهُوَ الَّذِي أَتَى بِالسَّوْءَةِ انْتَهَى.

وَالسَّوْءَةُ الْفَضِيحَةُ لِقُبْحِهَا قَالَ الشَّاعِرُ:

يَا لقومي للسوءة السواء أَيْ لِلْفَضِيحَةِ الْعَظِيمَةِ. قَالُوا: وَيَحْتَمِلُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ قَتَلَ غُرَابٌ غُرَابًا أَوْ كَانَ مَيِّتًا، أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أَخِيهِ عَائِدًا عَلَى الْغُرَابِ، أَيْ: لِيُرِيَ قَابِيلَ كَيْفَ يُوَارِي الْغُرَابُ سَوْءَةَ أَخِيهِ وَهُوَ الْغُرَابُ الْمَيِّتُ، فَيَتَعَلَّمَ مِنْهُ بِالْأَدَاةِ كَيْفَ يُوَارِي قَابِيلُ سَوْءَةَ هَابِيلَ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. لِأَنَّ الْغُرَابَ لَا تَظْهَرُ لَهُ سَوْءَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الإرادة هُنَا مِنْ جَعْلِهِ يَرَى أَيْ: يُبْصِرُ، وَعَلَّقَ لِيُرِيَهُ عَنِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِالْجُمْلَةِ الَّتِي فِيهَا الِاسْتِفْهَامُ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وكيف معمولة ليواري. وليريه متعلق بيبحث. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَبَعَثَ، وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي لِيُرِيَهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ حَقِيقَةٌ هِيَ مِنَ اللَّهِ، إِذْ لَيْسَ لِلْغُرَابِ قَصْدُ الْإِرَاءَةِ وَإِرَادَتُهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْغُرَابِ أَيْ: لِيُرِيَهُ الْغُرَابُ، أَيْ: لِيُعَلِّمَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبَ تَعْلِيمِهِ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ تَعْلِيمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي أَنْ كَانَ هَذَا الْمَبْعُوثُ غُرَابًا دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَمِنَ الطُّيُورِ كَوْنُهُ يُتَشَاءَمُ بِهِ فِي الْفِرَاقِ وَالِاغْتِرَابِ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَقِيلَ: فَبَعَثَ جُمْلَةٌ مَحْذُوفَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا الْمَعْنَى تَقْدِيرُهُ: فَجَهِلَ مُوَارَاتَهُ فَبَعَثَ.

قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي اسْتَقْصَرَ إِدْرَاكَهُ وَعَقْلَهُ فِي جَهْلِهِ مَا يَصْنَعُ بِأَخِيهِ حَتَّى يُعَلَّمَ، وَهُوَ ذُو الْعَقْلِ الْمُرَكَّبُ فِيهِ الْفِكْرُ وَالرُّؤْيَةُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ طَائِرٍ لَا يَعْقِلُ. وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: الْإِنْكَارُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالنَّعْيُ أَيْ: لَا أَعْجَزُ عَنْ كَوْنِي مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ، وَفِي ذَلِكَ هَضْمٌ لِنَفْسِهِ وَاسْتِصْغَارٌ لَهَا بِقَوْلِهِ: مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>