مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ حَرَّفُوا تَوْرَاتَهُمْ وَبَدَّلُوا أَحْكَامَهَا، فَهُمْ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ: نَحْنُ مُؤْمِنُونَ بِالتَّوْرَاةِ وَبِمُوسَى، وَقُلُوبُهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنَةٍ مِنْ حَيْثُ بَدَّلُوا وَجَحَدُوا مَا فِيهَا مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُنْكِرُونَهُ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تعالى بَعْدَ هَذَا وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ «١» وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ: مِنَ الَّذِينَ قَالُوا كَأَنَّهُ قَالَ: وَمِنْهُمْ، وَلَكِنْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْيَهُودِ مِنْ حَيْثُ الطَّائِفَةُ السَّمَّاعَةُ غَيْرُ الطَّائِفَةِ الَّتِي تُبَدِّلُ التَّوْرَاةَ عَلَى عِلْمٍ مِنْهَا انْتَهَى. وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مُتَكَلَّفٌ، وَسَمَّاعُونَ مِنْ صِفَاتِ الْمُبَالَغَةِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةُ السَّمَاعِ إِلَّا إِنْ كَانَ لِلْكَذِبِ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِنَّهُمْ سَمَّاعُونَ مِنْكَ أَقْوَالَكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكْذِبُوا عَلَيْكَ، وَيَنْقُلُونَ حَدِيثَكَ، وَيَزِيدُونَ مَعَ الْكَلِمَةِ أَضْعَافَهَا كَذِبًا. وَإِنْ كَانَ لِلْكَذِبِ مَفْعُولًا بِهِ لِقَوْلِهِ:
سَمَّاعُونَ، وَعُدِّيَ بِاللَّامِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْوِيَةِ لِلْعَامِلِ، فَمَعْنَى السَّمَاعِ هُنَا قَبُولُهُمْ مَا يَفْتَرِيهِ أَحْبَارُهُمْ وَيَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَتَحْرِيفِ كِتَابِهِ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْمَلِكُ يَسْمَعُ كَلَامَ فُلَانٍ، وَمِنْهُ
«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»
وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي قِرَاءَةِ يَحْزُنْكَ ثُلَاثِيًا وُرُبَاعِيًّا.
وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: يُسْرِعُونَ بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنْ أَسْرَعَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ: لِلْكِذْبِ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: الْكُذُبُ بِضَمِّ الْكَافِ وَالذَّالِ جَمْعُ كَذُوبٍ، نَحْوَ صَبُورٍ وَصُبُرٍ، أَيْ: سماعون للكذب الْكُذُبِ.
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: سَمَّاعُونَ لِكَذِبِ قَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أَيْ كَذِبُهُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَأْتُوهُ يَهُودُ فَدَكَ. وَقِيلَ: يَهُودُ خَيْبَرَ. وَقِيلَ: أَهْلُ الرَّأْيَيْنِ. وَقِيلَ: أَهْلُ الْخِصَامِ فِي الْقَتْلِ وَالدِّيَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: سَمَّاعُونَ لِأَجْلِ قَوْمٍ آخَرِينَ، أَيْ هُمْ عُيُونٌ لَهُمْ وَجَوَاسِيسُ يَسْمَعُونَ مِنْكَ وَيَنْقُلُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، وَهَذَا الْوَصْفُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ، وَيَهُودُ الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: السَّمَّاعُونَ بَنُو قُرَيْظَةَ، وَالْقَوْمُ الْآخَرُونَ يَهُودُ خَيْبَرَ. وَقِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هَلْ جَرَى ذِكْرُ الْجَاسُوسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ، لَمْ يَأْتُوكَ: صِفَةٌ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
وَمَعْنَى لَمْ يَأْتُوكَ: لَمْ يَصِلُوا إِلَى مَجْلِسِكَ وَتَجَافَوْا عَنْكَ لِمَا فَرَطَ مِنْهُمْ مَنْ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَعَلَى هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: هُمْ قَائِلُونَ مِنَ الْأَحْبَارِ كَذِبُهُمْ وَافْتِرَاؤُهُمْ، وَمِنْ أُولَئِكَ الْمُفْرِطِينَ فِي الْعَدَاوَةِ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ.
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قُرِئَ الْكَلِمُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ أَيْ:
يُزِيلُونَهُ وَيُمِيلُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورُ: هي حدود
(١) سورة المائدة: ٥/ ٤٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute