للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ: إِنْ أَكْرَمْتَ أَخِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ. (قُلْتُ) : هُوَ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:

فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ نَاصَبُوهُ. وَقَوْلُهُ: فَرِيقًا كَذَّبُوا، جَوَابٌ مُسْتَأْنَفٌ لِسُؤَالِ قاتل: كَيْفَ فَعَلُوا بِرُسُلِهِمْ؟ انْتَهَى قَوْلُهُ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ جَوَابُ الشَّرْطِ؟ سَمَّى قَوْلَهُ كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ شَرْطًا وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ كُلَّ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ مَا الْمَصْدَرِيَّةِ الظَّرْفِيَّةِ، وَالْعَامِلُ فِيهَا هُوَ مَا يَأْتِي بَعْدَ مَا الْمَذْكُورَةِ، وَصِلَتِهَا مِنَ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ «١» كُلَّمَا أُلْقُوا فِيها «٢» وَأَجْمَعَتِ الْعَرَبُ عَلَى أنه لا يحزم بِكُلَّمَا، وَعَلَى تَسْلِيمِ تَسْمِيَتِهِ شَرْطًا فَذَكَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَرِيقًا كَذَّبُوا يَنْبُو عَنِ الْجَوَابِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: لِأَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فَرِيقَيْنِ، وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، لِأَنَّ الرَّسُولَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. وَأَيُّ نَجْمٍ طَلَعَ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ انْقَسَمَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ كُذِّبَ، وَفَرِيقٌ قُتِلَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَوْلُه: وَلِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ إِنْ أَكْرَمْتَ أَخِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَنْصُوبِ فِعْلٍ لِلْجَوَابِ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، بَلْ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكِسَائِيِّ أَنَّ ذَاكَ جَائِزٌ حَسَنٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا الْفَرَّاءُ وَحْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ كُلَّمَا شَرْطٌ، وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَعْتَذِرَ بِهَذَا، بَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَنْصُوبِ الْفِعْلِ الْعَامِلِ فِي كُلَّمَا عَلَيْهِ. فَتَقُولُ فِي كُلَّمَا جِئْتَنِي أَخَاكَ أَكْرَمْتُ، وَعُمُومُ نُصُوصِ النَّحْوِيِّينَ عَلَى ذلك، لأنهم حين حصر، وأما يَجِبُ تَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى الْعَامِلِ وَمَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ قَالُوا: وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَجُوزُ فِيهِ التَّقْدِيمُ عَلَى الْعَامِلِ وَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ، وَلَمْ يَسْتَثْنُوا هَذِهِ الصُّورَةَ، وَلَا ذَكَرُوا فِيهَا خِلَافًا. فَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ يَكُونُ الْعَامِلُ فِي كُلَّمَا قَوْلُهُ: كَذَّبُوا، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ مَحْذُوفًا. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ: كُلَّمَا ظَرْفٌ، وَالْعَامِلُ فِيهِ كَذَّبُوا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ:

كَذَّبُوا جَوَابُ كُلَّمَا انْتَهَى. وَجَاءَ بِلَفْظِ يَقْتُلُونَ عَلَى حِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ اسْتِفْظَاعًا لِلْقَتْلِ، وَاسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالِ الشَّنِيعَةِ لِلتَّعَجُّبِ مِنْهَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيُحَسِّنُ مَجِيئُهُ أَيْضًا كَوْنُهُ رَأْسَ آيَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ فَرِيقًا فَقَطْ، وَقَتَلُوا فَرِيقًا وَلَا يَقْتُلُونَهُ إِلَّا مَعَ التَّكْذِيبِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْقَتْلِ عَنْ ذِكْرِ التَّكْذِيبِ أَيِ: اقْتَصَرَ ناس على كذيب فَرِيقٍ، وَزَادَ نَاسٌ عَلَى التَّكْذِيبِ الْقَتْلَ.

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ

قال ابن الأنباري:


(١) سورة النساء: ٤/ ٥٦.
(٢) سورة الملك: ٦٧/ ٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>