تَحْلِيفُهُ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَبِسَبَبِ النُّزُولِ وَهُوَ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيَّيْنِ عَلَى بُدَيْلٍ وَكَانَ مُسْلِمًا وَبِأَنَّ أَبَا مُوسَى قَضَى بِشَهَادَةِ يَهُودِيَّيْنِ بَعْدَ أَنْ حَلَّفَهُمَا وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا وَبِاتِّفَاقِ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ وَلَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ نَاصِرًا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ: هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْنًى غَامِضٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنًى آخَرَ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَكَرِيمٍ آخَرَ فَقَوْلُهُ آخَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وَخَسِيسٍ آخَرَ وَلَا مَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَحِمَارٍ آخَرَ فَوَجَبَ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أَيْ عَدْلَانِ وَالْكُفَّارُ لَا يَكُونُونَ عُدُولًا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَثَلِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِلْمَثَلِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّحَّاسُ فِي التَّرْكِيبِ لِأَنَّهُ مَثَّلَ بِآخَرَ وَجَعَلَهُ صِفَةً لِغَيْرِ جِنْسِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَمِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ آخَرُ عَلَى الْوَصْفِ وَانْدَرَجَ آخَرُ فِي الْجِنْسِ الَّذِي قَبْلَهُ وَلَا يُعْتَبَرُ جِنْسُ وَصْفِ الْأَوَّلِ تَقُولُ:
جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَآخَرُ كَافِرٌ وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَآخَرَ قَاعِدٍ وَاشْتَرَيْتُ فَرَسًا سَابِقًا وَآخَرَ مُبْطِئًا فَلَوْ أَخَّرْتَ آخَرَ فِي هَذِهِ الْمُثُلِ لَمْ تَجُزِ الْمَسْأَلَةُ لَوْ قُلْتَ: جَاءَنِي رَجُلٌ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ آخَرُ وَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ آخَرَ وَاشْتَرَيْتُ فَرَسًا سَابِقًا وَمُبْطِئًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ وَلَيْسَتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إِلَّا أَنَّ التَّرْكِيبَ فِيهَا جَاءَ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَآخَرَانِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ اثْنانِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا قَدَّرْتَهُ رَجُلَانِ اثْنَانِ فَآخَرَانِ هُمَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِكَ رَجُلَانِ اثْنَانِ وَلَا يُعْتَبَرُ وَصْفُ قَوْلِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا لِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ وَصْفُ الْجِنْسِ فِي قَوْلِكَ عِنْدِي رَجُلَانِ اثْنَانِ مُسْلِمَانِ وَآخَرَانِ كَافِرَانِ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ آخَرَ إِذَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ بَعِيدٌ وَصْفُهُ وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ هُوَ لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الشَّاعِرُ:
كَانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْغُونَ الزُّجَاجَ عَلَى ... قُعْسِ الْكَوَاهِلِ فِي أَشْدَاقِهَا ضَخَمُ
وَآخِرِينَ عَلَى الْمَاذِيِّ فَوْقَهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ أَوْ مَا أَوْرَثَتْ إِرَمُ
التَّقْدِيرُ كَانُوا فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا أَوْ نَاسًا يُصْغُونَ الزُّجَاجَ ثُمَّ قَالَ وَآخَرِينَ تَرَى الْمَأَذِيَ، فَآخَرِينَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِكَ فَرِيقًا، وَلَمْ يَعْبُرْهُ بِوَصْفِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ يُصْغُونَ الزُّجَاجَ لِأَنَّ الشَّاعِرَ قَسَّمَ مَنْ ذَكَرَ إِلَى قِسْمَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ بِالْوَصْفَيْنِ مُتَّحِدِي الْجِنْسِ، وَهَذَا الْفَرْقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ فَضْلًا عَمَّنْ يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَحَكَاهُ عَنْ مَكْحُولٍ، فَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ خَالَفَهُمْ فَقَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute