للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا لَوْ أُنْزِلَتْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا لَعُوجِلُوا بِالْعَذَابِ، وَيُحْتَمَلُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ الْمَصْلَحَةَ فِي آيَاتٍ مُعَرَّضَةٍ لِلنَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ لِيَهْتَدِيَ قَوْمٌ وَيَضِلَّ آخَرُونَ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ لَا يَعْلَمُونَ نَفَى عَنْهُمُ الْعِلْمَ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ وَبَيْنَ تَعَلُّقِهَا بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَتُعَلِّقُ الْقُدْرَةِ بِهِمَا سَوَاءٌ لِاجْتِمَاعِ الْمُقْتَرَحِ وَغَيْرِ الْمُقْتَرَحِ فِي الْإِمْكَانِ، فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَلَمْ يَقْنَعْ بِمَا وَرَدَ مِنْهَا فَهُوَ لَا شَكَّ جَاهِلٌ.

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَمَوْضِعُ الِاحْتِجَاجِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ رَكَّبَ فِي الْمُشْرِكِينَ عُقُولًا وَجَعَلَ لَهُمْ أَفْهَامًا أَلْزَمَهُمْ بِهَا أَنْ يَتَدَبَّرُوا أَمْرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا جَعَلَ لِلدَّوَابِّ وَالطَّيْرِ أَفْهَامًا يَعْرِفُ بِهَا بَعْضُهَا إِشَارَةَ بَعْضٍ، وَهَدَى الذَّكَرَ مِنْهَا لِإِتْيَانِ الْأُنْثَى، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَفَاذِ قُدْرَةِ الْمُرَكِّبِ ذَلِكَ فِيهَا.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ الْمَوْجُودَةِ فِي أَنْوَاعِ مَخْلُوقَاتِهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْغَرَضُ فِي ذِكْرِ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَتِهِ وَلُطْفِ عِلْمِهِ وَسَعَةِ سُلْطَانِهِ وَتَدْبِيرِهِ تِلْكَ الْخَلَائِقَ الْمُتَفَاوِتَةَ الْأَجْنَاسِ الْمُتَكَاثِرَةَ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ لِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مُهَيْمِنٌ عَلَى أَحْوَالِهَا لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفِينَ لَيْسُوا مَخْصُوصِينَ بِذَلِكَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ انْتَهَى.

وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ قَوْلَهُمْ لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وَلَمْ يَعْتَبِرُوا مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ وَأُجِيبُوا بِأَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِإِنْزَالِ آيَةٍ وَهِيَ الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوهَا وَنُبِّهُوا عَلَى جَهْلِهِمْ حَيْثُ فَرَّقُوا بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ أُخْبِرُوا أَنَّهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَجَمِيعَ الْحَيَوَانِ غَيْرَهُمْ مُتَمَاثِلُونَ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِالْجَمِيعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ خَلْقِ مَنْ كُلِّفَ وَمَا لَمْ يُكَلَّفْ فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِهِمَا وَإِبْرَازِهِمَا مِنْ صَرْفِ الْعَدَمِ إِلَى صَرْفِ الْوُجُودِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْقُدْرَةُ تَعَلَّقَتْ بِالْآيَاتِ كُلِّهَا مُقْتَرَحِهَا وَغَيْرِ مُقْتَرَحِهَا كَمَا تَعَلَّقَتْ بِخَلْقِكُمْ وَخَلْقِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، فَالْإِمْكَانُ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ يَعْنِي فِي تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِإِيجَادِهَا كَتَعَلُّقِهَا بِإِيجَادِكُمْ. وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ. وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ قَدْ تَكُونُ بِاخْتِرَاعِ أَعْيَانٍ، كَالْمَاءِ الَّذِي نَبَعَ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ وَالطَّعَامِ الَّذِي تَكَثَّرَ مِنْ قَلِيلٍ، كَمَا أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ هِيَ أَعْيَانٌ مُخْتَرَعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّ النِّسْبَةَ بِمُمَاثَلَةِ الْحَيَوَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>