للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ قَالَ النَّقَّاشُ: نَزَلَتْ فِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ثُمَّ انْسَحَبَتْ عَلَى سِوَاهُمُ انْتَهَى. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِالْآيَاتِ صُمٌّ لَا يَسْمَعُونَ مَنْ يُنَبِّهُهُمْ، فَلَا يَسْتَجِيبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَما مِنْ دَابَّةٍ الْآيَةَ مُنَبِّهًا عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَطِيفِ صُنْعِهِ وَبَدِيعِ خَلْقِهِ، ذَكَرَ أَنَّ الْمُكَذِّبَ بِآيَاتِهِ هُوَ أَصَمُّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ أَبْكَمُ عَنِ النُّطْقِ بِهِ، وَالْآيَاتُ هُنَا الْقُرْآنُ أَوْ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدَيْ الرسول مِنَ الْمُعْجِزَاتِ أَوِ الدَّلَائِلِ وَالْحُجَجِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الِانْتِفَاعِ الذِّهْنِيِّ بِهَذِهِ الْحَوَاسِّ لَا أَنَّهُمْ صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ حَقِيقَةً وَجَاءَ قَوْلُهُ: فِي الظُّلُماتِ كِنَايَةً عَنْ عَمَى الْبَصِيرَةِ، فَهُوَ يَنْظُرُ كَقَوْلِهِ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ «١» لَكِنَّ قَوْلَهُ: فِي الظُّلُماتِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ: عُمْيٌ إِذْ جُعِلَتْ ظَرْفًا لَهُمْ وَجُمِعَتْ لِاخْتِلَافِ جِهَاتِ الْكُفْرِ، كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ «٢» عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَفِي قَوْلِهِ: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ «٣» . وَقَالَ الْجِبَائِيُّ: الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْعَلُهُمْ صُمًّا وَبُكْمًا فِي الظُّلُمَاتِ يُضِلُّهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْجَنَّةِ وَيُصَيِّرُهُمْ إِلَى النَّارِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «٤» الْآيَةَ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: صُمٌّ وَبُكْمٌ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّتْمِ وَالْإِهَانَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ انْتَهَى.

والظُّلُماتِ ظُلُمَاتُ الْكُفْرِ أَوْ حُجُبٌ تُضْرَبُ عَلَى الْقَلْبِ فَيُظْلِمُ وَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُورِ الْإِيمَانِ، أَوْ ظُلُمَاتُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمِنْهُ قِيلَ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا أَوِ الشَّدَائِدُ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَبِّرُ عَنِ الشِّدَّةِ بِالظُّلْمَةِ يَقُولُونَ يَوْمٌ مظلمة إِذَا لَقُوا فِيهِ شِدَّةً وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلَاءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبَ مُظْلِمُ

أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: رَابِعُهَا قَالَهُ اللَّيْثُ. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مَفْعُولُ يَشَأِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إِضْلَالَهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ هِدَايَتَهُ يَجْعَلْهُ وَلَا يَجُوزُ فِي مَنْ فِيهِمَا أَنْ يَكُونَ مفعولا بيشأ لِلتَّعَانُدِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الْمَشِيئَتَيْنِ، (فَإِنْ قُلْتَ) : يَكُونُ مَفْعُولًا بيشأ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ إِضْلَالُ مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ وهداية من


(١) سورة البقرة: ٢/ ١٨، ١٧١.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ٢٥٧.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>