للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَوَى ابْنِي مِنْ ذُرَى شَرَفٍ ... فَزَلَّتْ رِجْلُهُ وَيَدُهْ

وَيُسْتَعْمَلُ الْهُوِيُّ أَيْضًا فِي رُكُوبِ الرَّأْسِ فِي النُّزُوعِ إِلَى الشَّيْءِ وَمِنْهُ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ «١» . وَقَالَ:

تَهْوِي إِلَى مَكَّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنِّ كَكُفَّارِهَا

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: هَذَا الْمَثَلُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنَ الْمَكَانِ الْعَالِي إِلَى الْوَهْدَةِ الْعَمِيقَةِ يَهْوِي إِلَيْهَا مَعَ الِاسْتِدَارَةِ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْحَجَرَ كَانَ حَالَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ يَنْزِلُ عَلَى الِاسْتِدَارَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ كَمَالَ التَّرَدُّدِ وَالتَّحَيُّرِ، فَعِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَسْقُطُ على موضع يَزْدَادُ بَلَاؤُهُ بِسَبَبِ سُقُوطِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقِلُّ، وَلَا تَجِدُ لِلْحَائِرِ الْخَائِفِ أَكْمَلَ وَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا الْمَثَلِ انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامُ تَكْثِيرٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ: لَهُ أَصْحابٌ أَيْ لَهُ رُفْقَةٌ وَجَعَلَ مُقَابِلَهُمْ فِي صُورَةِ التَّشْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَهُوَ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ، وَجَعَلَهُمْ غَيْرُهُ لَهُ أَصْحابٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ الدُّعَاةِ أَوْ لَا يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى بِزَعْمِهِمْ وَبِمَا يُوهِمُونَهُ فَشَبَّهَ بِالْأَصْحَابِ هُنَا الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُثَبِّتُونَ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ عَلَى الِارْتِدَادِ.

وَرُوِيَ هَذَا التَّأْوِيلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَحَكَى مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ هُوَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَبِالْأَصْحَابِ أَبُوهُ وَأُمُّهُ،

وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّهُ فِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآية دعا إياه أَبَا بَكْرٍ إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ وَشَقِيقَ عَائِشَةَ أُمُّهُمَا أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ غَنْمٍ الْكِنَانِيَّةُ وَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا مَعَ قَوْمِهِ كَافِرًا وَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُبَارِزَهُ فَذَكَرَ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قَالَ: «مَتِّعْنِي بِنَفْسِكَ» ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَصَحِبَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ فَسَمَّاهُ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ

، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ سَمِعَتْ قول من قال: إن قَوْلَهُ: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما «٢» أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ:

كَذَبُوا وَاللَّهِ مَا نَزَلَ فِينَا مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إِلَّا بَرَاءَتِي.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ (فَإِنْ قُلْتَ) : إِذَا كَانَ هَذَا وَارِدًا فِي شَأْنِ أَبِي بَكْرٍ فَكَيْفَ قِيلَ لِلرَّسُولِ: قُلْ أَنَدْعُوا. قُلْتُ: لِلِاتِّحَادِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وخصوصا بينه وبن الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا السُّؤَالُ إِنَّمَا يَرِدُ إِذَا صَحَّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي


(١) سورة ابراهيم: ١٤/ ٣٧.
(٢) سورة الأحقاف: ٤٦/ ١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>