للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الْإِشَارَةُ بِذَلِكُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى إِلَى آخِرِ مَا خَلَقَ تَعَالَى وَمَا امْتَنَّ بِهِ، وَالْآيَاتُ الْعَلَامَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِحْكَامِ صَنْعَتِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَظُهُورُ الْآيَاتِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا لِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ فَأَمَّا مَنْ سَبَقَ قَدَرُ اللَّهِ لَهُ بِالْكُفْرِ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. فَنَبَّهَ بِتَخْصِيصِ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَانْظُرْ إِلَى حُسْنِ مَسَاقِ هَذَا التَّرْتِيبِ لِمَا تَقَدَّمَ إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى جَاءَ التَّرْتِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ تَابِعًا لِهَذَا التَّرْتِيبِ فَحِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ذَكَرَ الزَّرْعَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَابْتَدَأَ بِهِ كَمَا ابْتَدَأَ بِهِ فِي قَوْلِهِ:

فالِقُ الْحَبِّ ثُمَّ ثَنَّى بِمَا لَهُ نَوَى فَقَالَ: مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ إِلَى آخِرِهِ كَمَا ثَنَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَالنَّوى وَقَدَّمَ الزَّرْعَ عَلَى الشَّجَرِ لِأَنَّهُ غِذَاءٌ وَالثَّمَرُ فَاكِهَةٌ، وَالْغِذَاءُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَاكِهَةِ، وَقَدَّمَ النَّخْلَ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاكِهِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْغِذَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَرَبِ، وَقَدَّمَ الْعِنَبَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْفَوَاكِهِ وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَنُوطٌ ثُمَّ حِصْرِمٌ ثُمَّ عِنَبٌ ثُمَّ إِنْ عُصِرَ كَانَ مِنْهُ خَلٌّ وَدِبْسٌ وَإِنْ جُفِّفَ كَانَ مِنْهُ زَبِيبٌ، وَقَدَّمَ الزَّيْتُونَ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْأَكْلِ وَفِيمَا يُعْصَرُ مِنْهُ مِنَ الدُّهْنِ الْعَظِيمِ النَّفْعِ فِي الْأَكْلِ وَالِاسْتِصْبَاحِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَكَرَ الرُّمَّانَ لِعَجَبِ حَالِهِ وَغَرَابَتِهِ فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ قِشْرٍ وَشَحْمٍ وَعَجَمٍ وَمَاءٍ، فَالثَّلَاثَةُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَرْضِيَّةٌ كَثِيفَةٌ قَابِضَةٌ عَفْصَةٌ قَوِيَّةٌ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَمَاؤُهُ بِالضِّدِّ أَلَذُّ الْأَشْرِبَةِ وَأَلْطَفُهَا وَأَقْرَبُهَا إِلَى حَيِّزِ الِاعْتِدَالِ وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِلْمِزَاجِ الضَّعِيفِ غِذَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَدَوَاءٌ مِنْ وَجْهٍ، فَجَمَعَ تَعَالَى فِيهِ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَعَانِدَيْنِ فَمَا أَبْهَرَ قُدْرَتَهُ وَأَعْجَبَ مَا خَلَقَ.

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ بَاهِرِ قُدْرَتِهِ وَمُتْقَنِ صَنْعَتِهِ وَامْتِنَانِهِ عَلَى عَالَمِ الْإِنْسَانِ بِمَا أَوْجَدَ لَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي قِوَامِ حَيَاتِهِ، وبين ذلك الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ولِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ مَا عَامَلُوا بِهِ مُنْشِئَهُمْ مِنَ الْعَدَمِ وَمُوجِدَ أَرْزَاقِهِمْ مِنْ إِشْرَاكِ غَيْرِهِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، وَنِسْبَةِ مَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ مِنْ وَصْفِهِ بِسِمَاتِ الْحُدُوثِ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالسِّبَاعِ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْمَجُوسِ قَالُوا: لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ إِلَهٌ قَدِيمٌ، وَالثَّانِي: شَيْطَانٌ حَادِثٌ مِنْ فِكْرَةِ الْإِلَهِ الْقَدِيمِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِطِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَائِطٍ زَعَمُوا أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعَيْنِ الْإِلَهُ الْقَدِيمُ وَالْآخَرُ مُحْدَثٌ خَلَقَهُ اللَّهُ أَوَّلًا ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ تَدْبِيرَ الْعَالَمِ، وَهُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ الْخَلْقَ فِي الْآخِرَةِ وَالضَّمِيرُ فِي وَجَعَلُوا عَائِدٌ عَلَى الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَأَهْلُ كِتَابٍ، وَقِيلَ:

<<  <  ج: ص:  >  >>