وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ قَالُوا: لَوْ أَتَيْنَاهُمْ بِآيَةٍ كَمَا سَأَلُوا لَقَلَبْنَا أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، وَحُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى فَلَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا رَأَوْا قَبْلَهَا، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَالَّذِي بَدَأْنَا بِهِ أَوَّلًا أَنَّ ذَلِكَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ بِمَا يَفْعَلُ بِهِمْ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَلَى تَقْدِيرِ مَجِيءِ الْآيَةِ الْمُقْتَرَحَةِ فَذَلِكَ وَاقِعٌ وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ، لِأَنَّ الْآيَةَ الْمُقْتَرَحَةَ لَمْ تَقَعْ فَلَمْ يَقَعْ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نُقَلِّبُ أَفْئِدَةَ هَؤُلَاءِ وَأَبْصَارَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَعَنِ الْآيَاتِ كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ أَوَائِلُهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِمَا رَأَوْا مِنَ الْآيَاتِ.
وَقِيلَ: تَقْلِيبُهَا بِإِزْعَاجِ نُفُوسِهِمْ هَمًّا وَغَمًّا.
وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّا نُحِيطُ عِلْمًا بِذَاتِ الصُّدُورِ وَخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ مِنْهُمْ انْتَهَى.
وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّفْسِيرُ لِقَوْلِهِ: كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ لَا على التعليل ولا عَلَى التَّشْبِيهِ إِلَّا إِنْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ أَيْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيَصِحُّ عَلَى بُعْدٍ فِي تَفْسِيرِ التَّقْلِيبِ بِإِحَاطَةِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّا لَا نَفْعَلُ بِهِمْ مَا نَفْعَلُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْهِدَايَةِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ انْتَهَى.
وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِيِّ وَمَعْنَى تَقْلِيبِ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ مِنَ الدَّوَاعِي إِلَى الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، لِأَنَّ الْقَلْبَ وَالْبَصَرَ يَتَقَلَّبَانِ بِأَنْفُسِهِمَا فَنِسْبَةُ التَّقْلِيبِ إِلَيْهِمَا مَجَازٌ. وَقُدِّمَتِ الْأَفْئِدَةُ لِأَنَّ مَوْضِعَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ هُوَ الْقَلْبُ فَإِذَا حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ إِلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى، وَإِذَا حَصَلَتِ الصَّوَارِفُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ تَحَدُّقُ النَّظَرِ إِلَيْهِ ظَاهِرًا وَهَذِهِ التَّفَاسِيرُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ.
فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا. وَالْمَعْنَى لَوْ رُدُّوا لَحُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا انْتَهَى. وَهَذَا يَنْبُو عَنْهُ تَرْكِيبُ الْكَلَامِ.
وَقِيلَ: تَقْلِيبُهَا فِي النَّارِ فِي جَهَنَّمَ عَلَى لَهِيبِهَا وَجَمْرِهَا لِيُعَذَّبُوا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا وَقَالَهُ الْجُبَّائِيُّ.