للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَالْكِرْمَانِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ وَالْحَوْفِيِّ. فَقَوْلُهُ فِيهِ بُعْدٌ إِذْ هُوَ ظَاهِرُ الِاتِّصَالِ أَوْ عذق إِيمَانُهُمْ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أهل السنة من أن إِيمَانَ الْعَبْدِ وَاقِعٌ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَحَمَلَ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى مَشِيئَةِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَشِيئَةُ إِكْرَاهٍ وَاضْطِرَارٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ عَلَى مَا عَادَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ قِيلَ مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ يَجْهَلُونَ الْحَقَّ، أَوْ يَجْهَلُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اقْتِرَاحُ الْآيَاتِ بَعْدَ أَنْ رَأَوْا آيَةً وَاحِدَةً، أَوْ يَجْهَلُونَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ هُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ يَجْهَلُونَ فَيُقْسِمُونَ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى مَا لَا يَشْعُرُونَ مِنْ حَالِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ. قَالَ أَوْ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ يَجْهَلُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا أَنْ يَضْطَرَّهُمْ فَيَطْمَعُونَ فِي إِيمَانِهِمْ إِذَا جَاءَتِ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ.

وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ يَجْهَلُونَ أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كُفَّارًا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا.

وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِذْ لَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَيْهَا الْحَادِثُ لِأَنَّهَا شَرْطٌ وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْمَشْرُوطِ حُصُولُ الشرط والحسن دَلَّ عَلَى حُدُوثِ الْإِيمَانِ فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّرْطِ حَادِثًا وَهُوَ الْمَشِيئَةُ.

وَأَجَابَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ بِأَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً تَعَلُّقُهَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ فِي الْحَالَةِ إِضَافَةٌ حَادِثَةٌ انْتَهَى. وَهَذِهِ الْآيَةُ مُؤَيِّسَةٌ مِنْ إِيمَانِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَهُمْ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ فَآمَنَ مِنْهُمْ.

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً الْمَعْنَى مِثْلَ مَا جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الْمُقْتَرِحِينَ الْآيَاتِ وَغَيْرَهُمْ أَعْدَاءً لَكَ جَعَلْنَا لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْدَاءً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أَيْ مُتَمَرِّدِي الصِّنْفَيْنِ يُوحِي يُلْقِي فِي خُفْيَةٍ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، أَيْ بَعْضُ الصِّنْفِ الْجِنِّيِّ إِلَى بَعْضِ الصِّنْفِ الْإِنْسِيِّ، أَوْ يُوحِي شَيَاطِينُ الْجِنِّ إِلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ زُخْرُفَ الْقَوْلِ، أَيْ مُحَسَّنَهُ وَمُزَيَّنَهُ، وَثَمَرَةُ هَذَا الْجَعْلِ الِامْتِحَانُ فَيَظْهَرُ الصَّبْرُ عَلَى مَا مُنُّوا بِهِ مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ فَيَعْظُمُ الثَّوَابُ وَالْأَجْرُ وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَأَسٍّ بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّكَ لَسْتَ مُنْفَرِدًا بِعَدَاوَةِ مَنْ عَاصَرَكَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>