نَقِيضَانِ كَمَا جَاءَ لَا تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا وَكَأَنَّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ رِقَّةً عَلَيْهِمْ حَيْثُ كَانَ أَمَلُهُ فِيهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا فَلَمْ يَقْدِرْ فَسَرَّى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِاسْتِحْضَارِ سَبَبِ التَّسَلِّي عَنْهُمْ وَالْقَسْوَةِ فَذَكَرَ أَشْنَعَ مَا ارْتَكَبُوهُ مَعَهُ مِنَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ الْبَاعِثُ عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَعَلَى الْمُنَاوَأَةِ الشَّدِيدَةِ حَتَّى لَا يُسَاكِنُوهُ وَتَوَعَّدُوهُ بِالْإِخْرَاجِ وَبِأَشَدَّ مِنْهُ وَهُوَ عَوْدُهُمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ، قَالَ مَكِّيٌّ:
وَسَارَ شُعَيْبٌ بِمَنْ تَبِعَهُ إِلَى مَكَّةَ فَسَكَنُوهَا وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَابْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْمَشُ إِيسِي بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهِيَ لُغَةٌ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الْفَاتِحَةِ.
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّالِفَةِ مِنْ بَأْسِهِ وَسَطْوَتِهِ عَلَيْهِمْ آخِرَ أَمْرِهِمْ حِينَ لَا تُجْدِي فِيهِمُ الْمَوْعِظَةُ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ عَادَتَهُ فِي أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَجَاءَ بَعْدَ إِلَّا فِعْلٌ مَاضٍ وَهُوَ أَخَذْنا وَلَا يَلِيهَا فِعْلٌ مَاضٍ إِلَّا إِنْ تَقَدَّمَ فِعْلٌ أَوْ أُصْحِبَ بِقَدْ فَمِثَالُ مَا تَقَدَّمَهُ فِعْلٌ هَذِهِ الْآيَةُ وَمِثَالُ مَا أُصْحِبَ قَدْ قَوْلِكَ مَا زَيْدٌ إِلَّا قَدْ قَامَ وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ أَخَذْنا حَالِيَّةٌ أَيْ إِلَّا آخِذِينَ أَهْلَهَا وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنَ الْأَحْوَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ قَوْلِهِ إِلَّا أَخَذْنا إِلَى آخِرِهِ.
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أَيْ مَكَانَ الْحَالِ السَّيِّئَةِ مِنَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ الْحَالُ الْحَسَنَةُ مِنَ السَّرَّاءِ وَالنِّعْمَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ مَكَانُ الشِّدَّةِ الرَّخَاءُ، وَقِيلَ مَكَانُ الشَّرِّ الْخَيْرُ وَمَكَانُ والْحَسَنَةَ مفعولا بدل ومَكانَ هُوَ مَحَلُّ الْبَاءِ أَيْ بِمَكَانِ السَّيِّئَةِ وَفِي لَفْظِ مَكانَ إِشْعَارٌ بِتَمَكُّنِ الْبَأْسَاءِ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ صَارَ لِلشِّدَّةِ عِنْدَهُمْ مَكَانٌ وَأَعْرَبَ بَعْضُهُمْ مَكانَ ظَرْفًا أَيْ فِي مَكَانِ.
حَتَّى عَفَوْا أَيْ كَثُرُوا وَتَنَاسَلُوا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ حَتَّى أَعْرَضُوا مِنْ عَفَا عَنْ ذَنْبِهِ أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: سَمِنُوا، وَقَالَ قَتَادَةُ سُرُّوا بِكَثْرَتِهِمْ وَذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُمْ لِأَنَّهُ أَخَذَهُمْ بِالشِّدَّةِ لِيَتَّعِظُوا وَيَزْدَجِرُوا فَلَمْ يَفْعَلُوا ثُمَّ أَخَذَهُمْ بِالرَّخَاءِ لِيَشْكُرُوا.
وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أَبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ وَأَشِرُوا فَقَالُوا هَذِهِ عَادَةُ الدَّهْرِ ضَرَّاءُ وَسَرَّاءُ وَقَدْ أَصَابَ آبَاءَنَا مِثْلُ ذَلِكَ لَا بِابْتِلَاءٍ وَقَصْدٍ بَلْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لَا عَلَى مَا تُخْبِرُ الْأَنْبِيَاءُ جَعَلُوا أَسْلَافَهُمْ وَمَا أَصَابَهُمْ مَثَلًا لَهُمْ وَلِمَا يُصِيبُهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نُنْكِرَ هَذِهِ الْعَادَةَ مِنْ أَفْعَالِ الدَّهْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute