للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَنَبَّهَهُمْ عَلَى الْحَقِّ فَلَجُّوا وَتَمَادَوْا فِي لَجَاجِهِمْ وَقَالُوا لَا بُدَّ وَلَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَاهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْمَعُوا النَّصَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ لَنْ تَرَانِي لِيَتَيَقَّنُوا وَيَنْزَاحَ عَنْهُمْ مَا كَانَ دَاخِلَهُمْ مِنَ الشُّبْهَةِ فَلِذَلِكَ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلَّا قَالَ أَرِهِمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ (قُلْتُ) : لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى وَهُمْ يَسْمَعُونَ فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ رَبِّ الْعِزَّةِ أَرَادُوا أَنْ يَرَى مُوسَى ذَاتَهُ فَيُبْصِرُوهُ مَعَهُ كَمَا أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ فَسَمِعُوهُ مَعَهُ إِرَادَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسٍ فَاسِدٍ فَلِذَلِكَ قَالَ مُوسَى أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَلِأَنَّهُ إِذَا زُجِرَ عَمَّا طَلَبَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ مَعَ نُبُوَّتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ وَزُلْفَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَقِيلَ لَهُ لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالْإِنْكَارِ وَلِأَنَّ الرَّسُولَ إِمَامُ أُمَّتِهِ فَكَانَ مَا يُخَاطَبُ بِهِ أَوْ يُخَاطِبُ رَاجِعًا إِلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ أَنْظُرْ إِلَيْكَ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَرْجَمَةٌ عَلَى مُقْتَرَحِهِمْ وَحِكَايَةٌ لِقَوْلِهِمْ وَجَلَّ صَاحِبُ الْجُمَلِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ مُقَابَلًا بِحَاسَّةِ النَّظَرِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ أَعْرَقُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ مِنْ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَالنَّظَّامِ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالشَّيْخَيْنِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَانِي مَفْعُولَيْ أَرِنِي مَحْذُوفٌ أَيْ أَرِنِي نَفْسَكَ اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنْ رُؤْيَتِكَ بِأَنْ تَتَجَلَّى لِي فَأَنْظُرَ إِلَيْكَ انْتَهَى.

قالَ لَنْ تَرانِي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَصَّ عَلَى مَنْعِهِ الرُّؤْيَةَ فِي الدُّنْيَا وَلَنْ تَنْفِيَ الْمُسْتَقْبَلَ فَلَوْ بَقِينَا عَلَى هَذَا النَّفْيِ بِمُجَرَّدِهِ لَتَضَمَّنَ أَنَّ مُوسَى لَا يَرَاهُ أَبَدًا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ وَرَدَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى الْحَدِيثُ الْمُتَوَاتِرُ

أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَحْرَى بِرُؤْيَتِهِ

، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَا مَعْنَى لَنْ، (قُلْتُ) : تَأْكِيدُ النَّفْيِ الَّذِي تُعْطِيهِ لَا وَذَلِكَ أَنَّ لَا تَنْفِي الْمُسْتَقْبَلَ تَقُولُ لَا أَفْعَلُ غَدًا فَإِذَا أَكَّدْتَ نَفْيَهَا قُلْتَ لَنْ أَفْعَلَ غَدًا وَالْمَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ يُنَافِي حَالِي كَقَوْلِهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «١» وَقَوْلُهُ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «٢» نَفْيٌ لِلرُّؤْيَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ وَلَنْ تَرَانِي تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ لِقَوْلِهِ أَنْظُرْ إِلَيْكَ، (قُلْتُ) : لَمَّا قَالَ أَرِنِي بِمَعْنَى اجْعَلْنِي مُتَمَكِّنًا مِنَ الرُّؤْيَةِ الَّتِي هِيَ الْإِدْرَاكُ عَلِمَ أَنَّ الطَّلِبَةَ هِيَ الرُّؤْيَةُ لَا النَّظَرُ الَّذِي لَا إِدْرَاكَ مَعَهُ فَقِيلَ لَنْ تَرَانِي وَلَمْ يَقُلْ لَنْ تَنْظُرَ إِلَيَّ.

وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَلَكِنْ سَأَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْكَ وَأَشَدُّ فَإِنِ اسْتَقَرَّ وَأَطَاقَ الصَّبْرَ لِهَيْبَتِي فَسَيُمْكِنُكَ أَنْتَ رُؤْيَتِي، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَعَلَى هَذَا إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْجَبَلَ مِثَالًا، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا الْمَعْنَى


(١) سورة الحج: ٢٢/ ٧٣.
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ١٠٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>