للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سأبتدىء لَكَ عَلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ لِعَظَمَتِي فَسَوْفَ تَرَانِي انْتَهَى، وَتَعْلِيقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِقْرَارِ مُؤْذِنٌ بِعَدَمِهَا إِنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَبَلَ مَعَ شِدَّتِهِ وَصَلَابَتِهِ إِذَا لَمْ يَسْتَقِرَّ فَالْآدَمِيُّ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَسْتَقِرَّ وَهَذَا تَسْكِينٌ لِقَلْبِ مُوسَى وَتَخْفِيفٌ عَنْهُ مِنْ ثِقَلِ أَعْبَاءِ الْمَنْعِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ اتَّصَلَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ بِمَا قَبْلَهُ، (قُلْتُ) : تَصِلُ بِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ إِلَيَّ مُحَالٌ فَلَا تَطْلُبْهُ وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِنَظَرٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْجَبَلِ الَّذِي يَرْجُفُ بِكَ وَبِمَنْ طَلَبَ الرُّؤْيَةَ لِأَجْلِهِمْ كَيْفَ أَفْعَلُ بِهِ وَكَيْفَ أَجْعَلُهُ دَكًّا بِسَبَبِ طَلَبِكَ لِلرُّؤْيَةِ لتستعظم ما أقدمت عيه بِمَا أُرِيكَ مِنْ عَظِيمِ أَثَرِهِ كَأَنَّهُ عَزَّ وَعَلَا حَقَّقَ عِنْدَ طَلَبِ الرُّؤْيَةِ مَا مَثَّلَهُ عِنْدَ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «١» فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ كَمَا كَانَ مُسْتَقِرًّا ثَابِتًا ذَاهِبًا في جهانه فَسَوْفَ تَرانِي تَعْرِيضٌ لِوُجُودِ الرُّؤْيَةِ لِوُجُودِ مَا لَا يَكُونُ مِنَ اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ مَكَانَهُ حَتَّى يَدُكَّهُ دَكًّا وَيُسَوِّيَهُ بِالْأَرْضِ وَهَذَا كَلَامٌ مُدْمَجٌ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَأُورِدَ عَلَى أُسْلُوبٍ عَجِيبٍ وَنَظْمٍ بَدِيعٍ أَلَا تَرَى كَيْفَ تَخَلَّصَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى النَّظَرِ بِكَلِمَةِ الِاسْتِدْرَاكِ ثُمَّ كَيْفَ ثَنَّى بِالْوَعِيدِ بِالرَّجْفَةِ الْكَائِنَةِ بِسَبَبِ طَلَبِ النَّظَرِ عَلَى الشَّرِيطَةِ فِي وُجُودِ الرُّؤْيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي انْتَهَى وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ أَقَاوِيلُ أَرْبَعَةٌ: أَحَدُهَا: مَا رَوَوْا عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ أَنَّ مُوسَى مَا عَرَفَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَهُوَ عَارِفٌ بِعَدْلِهِ وَبِرَبِّهِ وَبِتَوْحِيدِهِ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ وَجَوَازِهَا مَوْقُوفًا عَلَى السَّمَاعِ وَرُدَّ ذَلِكَ وَبِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ بِاللَّهِ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنْ مَعْرِفَةِ أَرْذَالِ الْمُعْتَزِلَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: سَأَلَ الرُّؤْيَةَ عَلَى لِسَانِ قَوْمِهِ فَقَدْ كَانُوا مُكْثِرِينَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنْهَا لَا لِنَفْسِهِ فَلَمَّا مُنِعَ ظَهَرَ أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ أَرِهِمْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ وَلَقِيلَ لَنْ تَرَوْنِي وَأَيْضًا لَوْ كَانَ مُحَالًا لَمَنَعَهُمْ عَنْهُ كَمَا مَنَعَهُمْ عَنْ جَعْلِ الْآلِهَةِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «٢» ، وَقَالَ الْكَعْبِيُّ سَأَلَهُ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةَ الَّتِي عِنْدَهَا تَزُولُ الْخَوَاطِرُ وَالْوَسَاوِسُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ كَمَا تَقُولُ فِي مَعْرِفَةِ أَهْلِ الْآخِرَةِ، وَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي حَذْفُ مُضَافٍ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَأْبَى ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا لَا غَايَةَ بَعْدَهَا كَالْعَصَا وَغَيْرِهَا، وَقَالَ الْأَصَمُّ الْمَقْصُودُ أَنْ يَذْكُرَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ حَتَّى يَتَأَكَّدَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ بِالدَّلِيلِ السمعي وأل فِي الْجَبَلِ لِلْعَهْدِ وَهُوَ أعظم


(١) سورة مريم: ١٩/ ٩٠.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٣٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>