وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ أَيْ وَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نُشَرِّفَهُ وَنَرْفَعَ قَدْرَهُ بِمَا آتَيْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ لَفَعَلْنَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أَيْ تَرَامَى إِلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَرَغِبَ فِيهَا وَاتَّبَعْ مَا هُوَ ناشىء عَنِ الْهَوَى وَجَاءَ الِاسْتِدْرَاكُ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يُرْفَعْ وَلَمْ يُشَرَّفْ كَمَا فَعَلَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ أُوتِيَ الْهُدَى فَآثَرَهُ وَأَتْبَعَهُ وأَخْلَدَ مَعْنَاهُ رَمَى بِنَفْسِهِ إِلَى الْأَرْضِ أَيْ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَلَاذِّ وَالشَّهَوَاتِ قَالَ مَعْنَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أَيْ مَالَ إِلَى السَّفَاهَةِ وَالرَّذَالَةِ كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ فِي الْحَضِيضِ عِبَارَةً عَنِ انْحِطَاطِ قَدْرِهِ بِانْسِلَاخِهِ مِنَ الْآيَاتِ قَالَ مَعْنَاهُ الْكِرْمَانِيُّ. قَالَ أَبُو رَوْقٍ: غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ هَوَاهُ فَاخْتَارَ دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ:
مَعْنَاهُ لَرَفَعْناهُ بِها لَأَخَذْنَاهُ كَمَا تَقُولُ رُفِعَ الظَّالِمُ إِذَا هَلَكَ وَالضَّمِيرُ فِي بِها عَائِدٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي الِانْسِلَاخِ وَابْتُدِئَ وَصْفُ حَالِهِ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ لَرَفَعْناهُ لَتَوَفَّيْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَرَفَعْنَاهُ عَنْهَا وَالضَّمِيرُ لِلْآيَاتِ ثُمَّ ابْتُدِئَ وَصْفُ حَالِهِ وَالتَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَهُ وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاسْتِدْرَاكُ لِأَنَّهُ عَلَى قَوْلِ الْإِهْلَاكِ بِالْمَعْصِيَةِ أَوِ التَّوَفِّي قَبْلَ الْوُقُوعِ فِيهَا لَا يَصِحُّ مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ وَالضَّمِيرُ فِي لَرَفَعْناهُ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَائِدٌ عَلَى الَّذِي أؤتي الْآيَاتِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي الضَّمِيرِ فِي بِها عَلَى مَا يَعُودُ وَقَالَ قَوْمٌ الضَّمِيرُ فِي لَرَفَعْناهُ عَلَى الْكُفْرِ الْمَفْهُومِ مِمَّا سَبَقَ وَفِي بِها عَائِدٌ عَلَى الْآيَاتِ أَيْ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَا الْكُفْرَ بِالْآيَاتِ وَهَذَا الْمَعْنَى رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَفِيهِ بُعْدٌ وَتَكَلُّفٌ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ عُلِّقَ رَفْعُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُعَلَّقْ بِفِعْلِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الرَّفْعَ؟ (قُلْتُ) : الْمَعْنَى وَلَوْ لَزِمَ الْعَمَلَ بِالْآيَاتِ وَلَمْ يَنْسَلِخْ مِنْهَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَذَلِكَ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى رَفْعَهُ تَابِعَةٌ لِلُزُومِهِ الْآيَاتِ فَذَكَرَ الْمَشِيئَةَ وَالْمُرَادُ مَا هِيَ تَابِعَةٌ لَهُ وَمُسَبَّبَةٌ عَنْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ وَلَوْ لَزِمَهَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَاسْتَدْرَكَ الْمَشِيئَةَ بِإِخْلَادِهِ الَّذِي هُوَ فَعَلَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وَلَوْ شِئْنا فِي مَعْنَى مَا هُوَ فَعَلَهُ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ وَلَكِنَّا لَمْ نَشَأِ انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ.
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أَيْ فَصِفَتُهُ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَحْمِلْهَا كَصِفَةِ الْكَلْبِ إِنْ كَانَ مَطْرُودًا لَهَثَ وَإِنْ كَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute