للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أَدَاهِمَ سُودًا أَوْ مُدَحْرَجَةً سُمْرَا

أَقَامَ مَقَامَ الْعَطَاءِ الْقُيُودَ وَالسِّيَاطَ كَمَا أَقَامُوا مَقَامَ الصَّلَاةِ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي ظَنِّهِمْ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ لَمَا نَفَى تَعَالَى وَلَايَتَهُمْ لِلْبَيْتِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْتَرِضَ مُعْتَرِضٌ بِأَنْ يَقُولَ كَيْفَ لَا نَكُونُ أَوْلِيَاءَهُ وَنَحْنُ نَسْكُنُهُ وَنُصَلِّي عِنْدَهُ فَقَطَعَ اللَّهُ هَذَا الِاعْتِرَاضَ، وَما كانَ صَلاتُهُمْ إِلَّا المكاء والتصدية كما يقال الرَّجُلُ: أَنَا أَفْعَلُ الْخَيْرَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا فِعْلُكَ الْخَيْرَ إِلَّا أَنْ تَشْرَبَ الْخَمْرَ وَتَقْتُلَ أَيْ هَذِهِ عَادَتُكَ وَغَايَتُكَ قَالَ: وَالَّذِي مَرَّ بِي مِنْ أَمْرِ الْعَرَبِ فِي غَيْرِ مَا دِيوَانٍ أَنَّ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ كَانَا مِنْ فِعْلِ الْعَرَبِ قَدِيمًا قَبْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى جِهَةِ التَّقَرُّبِ وَالتَّشَرُّعِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَقْوِيَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُ كَانَ يَمْكُو عَلَى الصَّفَا فَيُسْمَعُ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ وَعَلَى هَذَا يَسْتَقِيمُ تَعْيِيرُهُمْ وَتَنْقِيصُهُمْ بِأَنَّ شَرْعَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ رَهْبَةً وَلَا رَغْبَةً إِنَّمَا كَانَتْ مُكاءً وَتَصْدِيَةً مِنْ نَوْعِ اللَّعِبِ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا يَتَزَيَّدُونَ فِيهَا وَقْتَ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْغَلُوهُ وَأَمَتَّهُ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: وَالْمُكَاءُ: الصَّفِيرُ، وَالتَّصْدِيَةُ: التَّصْفِيقُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا الْمُكَاءُ إِدْخَالُهُمْ أَصَابِعَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَالتَّصْدِيَةُ الصَّفِيرُ وَالصَّفِيرُ بِالْفَمِ وَقَدْ يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ فِي الْفَمِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ يُشَارِكُ الْأَنْفُ يُرِيدُونَ أَنْ يَشْغَلُوا بِذَلِكَ الرَّسُولَ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: التَّصْدِيَةُ صَدُّهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: إِنَّ صَلَاتَهُمْ وَدُعَاءَهُمْ غَيْرُ رَادِّينَ عَلَيْهِمْ ثَوَابًا إلا كما يجيب الصدا الصَّائِحَ فَتَلَخَّصَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: مَا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ وَتَعَبُّدٌ وَذَلِكَ هُوَ الْمُكَاءُ وَالتَّصْدِيَةُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ صَلَاةٌ وَلَا جَدْوَى لَهَا وَلَا ثَوَابَ فَجُعِلَتْ كَأَنَّهَا أَصْوَاتُ الصَّدَا حَيْثُ لَهَا حَقِيقَةٌ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَهُمْ لَكِنَّهُمْ أَقَامُوا مَقَامَهَا الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ،

وَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا هِيَ الطَّوَافُ وَقَدْ سَمَّاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً

، وَقَرَأَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ وَعَاصِمٌ وَالْأَعْمَشُ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا صَلاتُهُمْ بِالنَّصْبِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً بِالرَّفْعِ وَخَطَّأَ قَوْمٌ مِنْهُمْ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِجَعْلِ الْمَعْرِفَةِ خَبَرًا وَالنَّكِرَةِ اسْمًا قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ كَقَوْلِهِ:

يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ وَخَرَّجَهَا أَبُو الْفَتْحِ عَلَى أَنَّ الْمُكَاءَ وَالتَّصْدِيَةَ اسْمُ جِنْسٍ وَاسْمُ الْجِنْسِ تَعْرِيفُهُ وَتَنْكِيرُهُ وَاحِدٌ انْتَهَى، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ نَسْلَخُ صِفَةً لِلَّيْلِ فِي قَوْلِهِ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ «١» وَيَسُبُّنِي صِفَةً لِلَّئِيمِ في قوله:


(١) سورة يس: ٣٦/ ٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>