مَجْرَاهُمْ بِأَنْ كَانُوا كُفَّارًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَالَةٌ مَرْضِيَّةٌ فَغَيَّرُوا تِلْكَ الْحَالَةَ الْمَسْخُوطَةَ إِلَى أَسْخَطَ مِنْهَا مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْمُعَانَدَةِ وَالتَّخْرِيبِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالسَّعْيِ فِي إِبْطَالِ آيَاتِ اللَّهِ فَغَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِهِ وَعَاجَلَهُمْ وَلَمْ يُمْهِلْهُمْ وَفِي قَوْلِ الزَّمَخْشَرِيِّ ذَلِكَ الْعَذَابُ أَوِ الِانْتِقَامُ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَنْبَغِ لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حِكْمَتِهِ أَنْ يُغَيِّرَ نِعَمَهُ عِنْدَ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِهِمْ مِنَ الْحَالِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِ مُكَذِّبِي الرَّسُولِ، عَلِيمٌ بِأَفْعَالِهِمْ فَهُوَ مُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ قَالَ قَوْمٌ: هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا التَّكْرِيرُ لِمَعْنًى لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَوِ الْأَوَّلُ دَأْبٌ فِي أَنْ هَلَكُوا لَمَّا كَفَرُوا وَهَذَا الثَّانِي دَأْبٌ فِي أَنْ لَمْ يُغَيِّرْ نِعْمَتَهُمْ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ انْتَهَى، وَقَالَ قَوْمٌ: كَرَّرَ لِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ الثَّانِيَ جَرَى مَجْرَى التَّفْصِيلِ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ذِكْرُ إِجْرَامِهِمْ وَفِي هَذَا ذِكْرُ إِغْرَاقِهِمْ وَأُرِيدَ بِالْأَوَّلِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ حَالَ الْمَوْتِ وَبِالثَّانِي مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الْأَوَّلِ بِآياتِ اللَّهِ إِشَارَةً إِلَى إِنْكَارِ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَفِي الثَّانِي بِآياتِ رَبِّهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى إِنْكَارِ نِعَمِ مَنْ رَبَّاهُمْ وَدَلَائِلِ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَتَوَالِيهَا وَفِي الْأَوَّلِ اللَّازِمُ مِنْهُ الْأَخْذُ، وَفِي الثَّانِي اللَّازِمُ مِنْهُ الْهَلَاكُ وَالْإِغْرَاقُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بِآياتِ رَبِّهِمْ زِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى كُفْرَانِ النِّعَمِ وَجُحُودِ الْحَقِّ وَفِي ذِكْرِ الْإِغْرَاقِ بَيَانٌ لِلْأَخْذِ بِالذُّنُوبِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فِي كَفَرُوا عَائِدًا عَلَى قُرَيْشٍ وَفِي الْأَخِيرَةِ فِي كَذَّبُوا عائدا عَلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ انْتَهَى.
وَقِيلَ فَأَهْلَكْناهُمْ هُمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ كَذَّبُوا عَائِدًا عَلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وَقَالَ التَّبْرِيزِيُّ فَأَهْلَكْناهُمْ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ وَعَادًا بِالرِّيحِ وَثَمُودًا بِالصَّيْحَةِ وَقَوْمَ لُوطِ بِالْخَسْفِ، وَفِرْعَوْنَ وَآلَهُ بِالْغَرَقِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِالظُّلَّةِ، وَقَوْمَ دَاوُدَ بِالْمَسْخِ وَأَهْلَكَ قُرَيْشًا وَغَيْرَهَا بَعْضَهُمْ بِالْفَزَعِ وَبَعْضَهُمْ بِالسَّيْفِ وَبَعْضَهُمْ بِالْعَدَسَةِ كَأَبِي لَهَبٍ، وَبَعْضَهُمْ بِالْغُدَّةِ كَعَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَبَعْضَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ كَأَوِيدِ بْنِ قَيْسٍ انتهى، فيظهر من هذه الْكَلَامِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي كَذَّبُوا وفَأَهْلَكْناهُمْ عَائِدٌ عَلَى الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي كَدَأْبِ إِذْ عَمَّ الضَّمِيرُ الْقَبِيلَتَيْنِ وَإِنَّمَا خَصَّ آلِ فِرْعَوْنَ بِالذِّكْرِ وَذَكَرَ الَّذِي أُهْلِكُوا بِهِ وَهُوَ إِغْرَاقُهُمْ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إِلَى كُفْرِهِمْ دَعْوَى الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ أَشْنَعَ الْكُفْرِ وَأَفْظَعَهُ وَمُرَاعَاةُ لَفْظِ كُلٌّ إِذَا حَذَفَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ وَمَعْنَاهُ جَائِزَةٌ وَاخْتِيرَ هُنَا مُرَاعَاةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute