للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْفَرِيقِ فَرُجُوعٌ مِنْ حَالَةٍ مَحْطُوطَةٍ إِلَى حَالَةِ غُفْرَانٍ وَرِضًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «١» وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «٢» وَهُوَ بَعْثٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى التَّوْبَةِ، وَأَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، حَتَّى النَّبِيُّ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَإِبَانَةٌ لِفَضْلِ التَّوْبَةِ وَمِقْدَارِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ صِفَةَ الْأَوَّابِينَ صِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِالصَّالِحِينَ لِتَظْهَرَ فَضِيلَةُ الصَّلَاحِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إِذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «٣» انْتَهَى. وَقِيلَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ صَدَرَ عَنِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى تَابَ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا مَشَاقَّ ذَلِكَ السَّفَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ضَمَّ ذِكْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذِكْرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ مَرَاتِبِهِمْ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ. اتَّبَعُوهُ: أَيْ اتَّبَعُوا أَمْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ ابْتَدَأَ بِالْخُرُوجِ، وَخَرَجُوا بَعْدَهُ فَيَكُونُ الِاتِّبَاعُ حَقِيقَةً سَاعَةِ الْعُسْرَةِ أَيْ: فِي وَقْتِ العسرة، والتباعة مُسْتَعَارَةٌ لِلزَّمَانِ الْمُطْلَقِ، كَمَا اسْتَعَارُوا الْغَدَاةَ وَالْعَشِيَّةَ وَالْيَوْمَ. قَالَ:

غَدَاةَ طَفَتْ عَلْمَاءِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ ... عَشِيَّةَ قَارَعْنَا جُذَامَ وَحِمْيَرَا

وَآخَرُ:

إِذَا جَاءَ يَوْمًا وَارِثِي يَبْتَغِي الْغِنَى وَهِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ كَانَتْ تُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِسَاعَةِ الْعُسْرَةِ السَّاعَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا عَزْمُهُمْ وَانْقِيَادُهُمْ لِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، إِذِ السَّفْرَةُ كُلُّهَا تَبَعٌ لِتِلْكَ السَّاعَةِ، وَبِهَا وَفِيهَا يَقَعُ الْأَجْرُ عَلَى اللَّهِ وَتَرْتَبِطُ النِّيَّةُ، فَمَنِ اعْتَزَمَ عَلَى الْغَزْوِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَقَدْ أَنْفَعَ فِي سَاعَةِ عُسْرَةٍ، وَلَوِ اتَّفَقَ أَنْ يَطْرَأَ لَهُمْ غِنًى فِي سَائِرِ سَفَرِهِمْ لَمَا اخْتَلَّ كَوْنُهُمْ مُتَّبِعِينَ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ.

وَالْعُسْرَةُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ وَالْعَدَمُ، وَهَذَا هُوَ جَيْشُ الْعُسْرَةِ الَّذِي

قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»

فَجَهَّزَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بِأَلْفِ جَمَلٍ وَأَلْفِ دِينَارٍ.

وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّبَ الدَّنَانِيرَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «وَمَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا»

وَجَاءَ أَنْصَارِيٌّ بِسَبْعِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ بُرٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَسَنُ: بَلَغَتِ الْعُسْرَةُ بِهِمْ إِلَى أَنْ كَانَ الْعَشَرَةُ مِنْهُمْ يَعْتَقِبُونَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مِنْ قِلَّةِ الظَّهْرِ، وَإِلَى أَنْ قَسَّمُوا التَّمْرَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ،


(١) سورة الفتح: ٤٨/ ٢.
(٢) سورة غافر: ٤٠/ ٤٠. ومحمد: ٤٧/ ٤٧.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٤٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>