وَكَانَ النَّفَرُ يَأْخُذُونَ التَّمْرَةَ الْوَاحِدَةَ فَيَمُصُّهَا أَحَدُهُمْ وَيَشْرَبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِهَا كُلُّهُمْ ذَلِكَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَصَابَهُمْ فِي بَعْضِهَا عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى جَعَلُوا يَنْحَرُونَ الْإِبِلَ وَيَشْرَبُونَ مَا فِي كُرُوشِهَا مِنَ الْمَاءِ، وَيَعْصِرُونَ الْفَرْثَ حَتَّى اسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَفَعَ يديه يدعو، فما رجعهما حتى انكسبت سَحَابَةٌ، فَشَرِبُوا وَادَّخَرُوا ثُمَّ ارْتَحَلُوا، فَإِذَا السَّحَابَةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنِ الْعَسْكَرِ. وَفِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ هَمُّوا مِنَ الْمَجَاعَةِ بِنَحْرِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَ بِجَمْعِ فَضْلِ أَزْوَادِهِمْ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُ عَلَى النِّطَعِ شَيْءٌ يَسِيرٌ، فَدَعَا فِيهِ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ قَالَ: «خُذُوا في أوعيتكم فملأوها حَتَّى لَمْ يَبْقَ وِعَاءٌ» وَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ.
وَكَانَ الْجَيْشُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَزِيَادَةً، وهي آخر مغازيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا خَلَّفَ عَلِيًّا بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ خَلَّفَهُ بُغْضًا لَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِهِمْ
فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى»
؟ وَوَصَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَوَائِلِ بِلَادِ الْعَدُوِّ، وَبَثَّ السَّرَايَا، فَصَالَحَهُ أَهْلُ أَذْرَحَ وَأَيْلَةَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى الْجِزْيَةِ وَانْصَرَفَ.
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ قَالَ الْحَسَنُ: هَمَّتْ فِرْقَةٌ بِالِانْصِرَافِ لِمَا لَقَوْا مِنَ الْمَشَقَّةِ. وَقِيلَ:
زَيْغُهَا كَانَ بِظُنُونٍ لَهَا سَاءَتْ فِي مَعْنَى عَزْمِ الرَّسُولِ عَلَى تِلْكَ الْغَزْوَةِ، لِمَا رَأَتْهُ مِنْ شِدَّةِ الْعُسْرَةِ وَقِلَّةِ الْوَفْرِ، وَبُعْدِ الشُّقَّةِ، وَقُوَّةِ الْعَدُوِّ الْمَقْصُودِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَزِيغُ، تَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ فِي الْمُبَايَعَةِ. وَكَادَ تَدُلُّ عَلَى الْقُرْبِ، لَا عَلَى التَّلَبُّسِ بِالزَّيْغِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ:
يَزِيغُ بِالْيَاءِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ فِي كَادَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَارْتِفَاعُ قُلُوبُ بتزيغ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد وتزيغ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ، لِأَنَّ النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. وَلَا يَجُوزُ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ قُلُوبٌ يَزِيغُ بِالْيَاءِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ: بِالتَّاءِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قُلُوبُ اسم كاد، وتزيغ الْخَبَرُ وَسَطٌ بَيْنِهِمَا، كَمَا فعل ذلك بكان. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي عَسَى، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ كاد ضمير يَعُودُ عَلَى الْجَمْعِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ذِكْرُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ هُوَ أَيْ: الْجَمْعُ. وَقَدْ قَدَّرَ الْمَرْفُوعَ بِكَادَ بَاسِمٍ ظَاهِرٍ وَهُوَ الْقَوْمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ الْقَوْمُ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعَارِيبِ الثَّلَاثَةِ إِشْكَالٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مِنْ أَنَّ خَبَرَ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُضَارِعًا رَافِعًا ضَمِيرَ اسْمِهَا.
فَبَعْضُهُمْ أَطْلَقَ، وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَ بِغَيْرِ عَسَى مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا، وَذَلِكَ بِخِلَافِ كَانَ. فَإِنَّ خَبَرَهَا يَرْفَعُ الضَّمِيرَ، والسبي لِاسْمِ كَادَ، فَإِذَا قَدَّرْنَا فِيهَا ضَمِيرَ الشَّأْنِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمَرْفُوعُ لَيْسَ ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ كَادَ بَلْ وَلَا سَبَبًا لَهُ، وَهَذَا يَلْزَمُ فِي قِرَاءَةِ الْيَاءِ أَيْضًا. وَأَمَّا تَوْسِيطُ الْخَبَرِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute