للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَوْلُهُمْ فِي الْإِنْذَارِ وَالْبِشَارَةِ سِحْرٌ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُ فَرَّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَحَالَ بَيْنَ الْقَرِيبِ وَقَرِيبِهِ، فَأَشْبَهَ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ السَّاحِرُ، وَظَنُّوهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَجْزِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فِي تَسْمِيَتِهِ سِحْرًا. وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُمْ فِيمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سِحْرًا ظَاهِرَ الْفَسَادِ، لَمْ يَحْتَجْ قَوْلُهُمْ إِلَى جَوَابٍ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ نَشْأَتَهُ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ وَخِلْطَتَهُمْ لَهُ وَمَا كَانَتْ قِلَّةَ عِلْمٍ، ثم أَتَى بِهِ مِنَ الْوَحْيِ الْمُتَضَمِّنِ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ كِتَابٌ إِلَهِيٌّ مِنْ قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَالْإِخْبَارِ بِالْغُيُوبِ وَالِاشْتِمَالِ عَلَى مَصَالِحَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، مَعَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَرَاعَةِ الَّتِي أَعْجَزَتْهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَضَمَّنَهَا يَقْضِي بِفَسَادِ مَقَالَتِهِمْ، وَقَوْلُهُمْ ذَلِكَ هُوَ دَيْدَنُ الْكَفَرَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ إِذْ أَتَوْهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ كَمَا قَالَ: فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ «١» قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا «٢» وَقَوْمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «٣» وَدَعْوَى السِّحْرِ إِنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالْجَحْدِ.

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ «٤» وَجَاءَتَا عَقِبَ ذِكْرِ الْقُرْآنِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمَعَادِ. فَفِي الْأَعْرَافِ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ «٥» وَقَوْلُهُ: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ «٦» وَهُنَا تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ. وَذِكْرُ الْإِنْذَارِ وَالتَّبْشِيرِ وَثَمَرَتِهُمَا لَا تَظْهَرُ إِلَّا فِي الْمَعَادِ. وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ هَذَا الْخَلْقِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ الْعَظِيمَيْنِ وَهُوَ رَبُّكُمُ النَّاظِرُ فِي مَصَالِحِكُمْ، فَلَا يُتَعَجَّبُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَى خَلْقِهِ مَنْ يُحَذِّرُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ وَيُبَشِّرُ عَلَى طَاعَتِهِ، إِذْ لَيْسَ خَلْقُهُمْ عَبَثًا بَلْ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَسَبَقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ، إِذِ الْقَادِرُ الْعَظِيمُ قَادِرٌ عَلَى مَا دُونَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ: قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ يَقْضِيهِ وَحْدَهُ. وَالتَّدْبِيرُ تَنْزِيلُ الْأُمُورِ فِي مَرَاتِبِهَا وَالنَّظَرُ فِي أَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، وَالْأَمْرُ قِيلَ: الْخَلْقُ كُلُّهُ عُلْوِيُّهُ وَسُفْلِيُّهُ.

وَقِيلَ: يَبْعَثُ بِالْأَمْرِ مَلَائِكَةً، فَجِبْرِيلُ لِلْوَحْيِ، وَمِيكَائِيلُ لِلْقَطْرِ، وَعِزْرَائِيلُ لِلْقَبْضِ، وَإِسْرَافِيلُ لِلصُّورِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِعَظِيمِ شَأْنِهِ وَمُلْكِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْإِيجَادَ ذَكَرَ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِهِ إِيجَادًا وَتَدْبِيرًا لا يشركه أحد فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يجترىء أحد على


(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٠٩.
(٢) سورة القصص: ٢٨/ ٤٨.
(٣) سورة المائدة: ٥/ ١١٠.
(٤) سورة الأعراف: ٧/ ١١٦.
(٥) سورة الأعراف: ٧/ ٥٢.
(٦) سورة الأعراف: ٧/ ٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>