للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجَوَابِ قَبْلَهَا. وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ إِخْبَارًا، مَعْطُوفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمَقُولَةِ لَا عَلَى جَوَابِ الْقَسَمِ. وَأَعْجَزَ الْهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا قَالَ: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا، لَكِنَّهُ كَثُرَ فِيهِ حَذْفُ الْمَفْعُولِ حَتَّى قَالَتِ الْعَرَبُ: أَعْجَزَ فُلَانٌ إِذَا ذَهَبَ فِي الْأَرْضِ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ مَا أَنْتُمْ مِمَّنْ يُعْجِزُ مَنْ يُعَذِّبُكُمْ.

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ وَأَقْسَمَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ، ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ فِي الْآخِرَةِ. وَظَلَمَتْ صِفَةٌ لِنَفْسٍ، وَالظُّلْمُ هُنَا الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، وَافْتَدَى يَأْتِي مُطَاوِعًا لَفَدَى، فَلَا يَتَعَدَّى تَقُولُ: فَدَيْتُهُ فَافْتَدَى، وَبِمَعْنَى فَدَى فَيَتَعَدَّى، وَهُنَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ. وَمَا فِي الْأَرْضِ أَيْ: مَا كَانَ لَهَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخَزَائِنِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ، وَأَسَرُّوا مِنَ الْأَضْدَادِ تَأْتِي بِمَعْنَى أَظْهَرَ. قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

وَلَمَّا رَأَى الْحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ ... أَسَرَّ الْحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَظْهَرَا

وَقَالَ آخَرُ:

فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى ... بِرَدِّ جِمَالِ غَاضِرَةَ الْمُنَادِي

وَتَأْتِي بِمَعْنَى أَخْفَى وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِيهَا كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ «١» وَيَحْتَمِلُ هُنَا الْوَجْهَيْنِ. أَمَّا الْإِظْهَارُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَوْمِ تَصَبُّرٍ وَلَا تَجَلُّدٍ وَلَا يَقْدِرُ فِيهِ الْكَافِرُ عَلَى كِتْمَانِ مَا نَالَهُ، وَلِأَنَّ حَالَةَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ يَتَحَسَّرُ الْإِنْسَانُ عَلَى اقْتِرَافِهِ مَا أَوْجَبَهُ، وَيُظْهِرُ النَّدَامَةَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنَ الْفَوْزِ وَمِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَدْ قَالُوا: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا. وَأَمَّا إِخْفَاءُ النَّدَامَةِ فَقِيلَ: أَخْفَى رُؤَسَاؤُهُمُ النَّدَامَةَ مِنْ سَفَلَتِهِمْ حَيَاءً مِنْهُمْ وَخَوْفًا مِنْ تَوْبِيخِهِمْ، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّ مَنْ عَايَنَ الْعَذَابَ هُوَ مَشْغُولٌ بِمَا يُقَاسِيهِ مِنْهُ فَكَيْفَ لَهُ فِكْرٌ فِي الْحَيَاءِ وَفِي التَّوْبِيخِ الْوَارِدِ مِنَ السَّفَلَةِ. وَأَيْضًا وَأَسَرُّوا عَائِدٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ عَامٌّ فِي الرُّؤَسَاءِ وَالسَّفَلَةِ. وَقِيلَ: إِخْفَاءُ النَّدَامَةِ هُوَ مِنْ كَوْنِهِمْ بُهِتُوا لِرُؤْيَتِهِمْ مَا لَمْ يَحْسَبُوهُ وَلَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ، وَمُعَايَنَتُهُمْ مَا أَوْهَى قُوَاهُمْ فَلَمْ يُطِيقُوا عِنْدَ ذَلِكَ بُكَاءً وَلَا صُرَاخًا. وَلَا مَا يَفْعَلُهُ الْجَازِعُ سِوَى إِسْرَارِ النَّدَمِ وَالْحَسْرَةِ فِي الْقُلُوبِ، كَمَا يَعْرِضُ لِمَنْ يُقَدَّمُ لِلصَّلْبِ لَا يَكَادُ يَنْبِسُ بِكَلِمَةٍ، وَيَبْقَى مَبْهُوتًا جَامِدًا. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ، أَخْلَصُوا لِلَّهِ فِي تِلْكَ النَّدَامَةِ، أَوْ بَدَتْ بِالنَّدَامَةِ أَسِرَّةُ وُجُوهِهِمْ أَيْ: تَكَاسِيرُ جِبَاهِهِمْ فَفِيهِ بُعْدٌ عن


(١) سورة البقرة: ٢/ ٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>