للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سِيَاقِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، جُمْلَةُ أَخْبَارٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا فِي حَيِّزِ لَمَّا، وَأَنَّ الضَّمِيرُ فِي بَيْنِهِمْ عَائِدٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:

بَيْنَ الظَّالِمِينَ وَالْمَظْلُومِينَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرُ الظُّلْمِ انْتَهَى. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ. وَقِيلَ: عَلَى الرُّؤَسَاءِ وَالْأَتْبَاعِ.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ: قِيلَ: تَعَلُّقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فَرَضَ أَنَّ النَّفْسَ الظَّالِمَةَ لَوْ كَانَ لَهَا مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، وَهِيَ لَا شَيْءَ لَهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هِيَ بِأَسْرِهَا مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا، إِذْ لَهُ الْمُلْكُ وَالْمِلْكُ. وَيَظْهَرُ أَنَّ مُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا سَأَلُوا عَمَّا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَحَقٌّ هُوَ؟ وَأَجِيبُوا بِأَنَّهُ حَقٌّ لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا كَافِيًا لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِيمَانِ،

كَمَا كَانَ جَوَابًا لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ سأل الرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قوله عليه السلام له: «اللَّهُمَّ نَعَمْ» فَقَنِعَ مِنْهُ بِإِخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ وَالصِّدْقَ

، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ: لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. انْتَقَلَ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ إِلَى ذِكْرِ الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ عَلَى حُجَّتِهِ. وَتَقْرِيرِهِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ يَتَفَرَّعَانِ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ ملكه وملكه، وعبر عن هَذَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقْصَى الدَّلَائِلِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «١» الْآيَةَ وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً «٢» فَاكْتَفَى هُنَا عَنْ ذِكْرِهَا. وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ مَا فِي الْعَالَمِ مُلْكَهُ، وَمِلْكَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الْحَاجَاتِ، مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، وَبِكَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى الْمُمْكِنَاتِ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْزَالِ الْعَذَابِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَادِرًا عَلَى تَأْيِيدِ رَسُولِهِ بِالدَّلَائِلِ وَإِعْلَاءِ دِينِهِ، فَبَطَلَ الِاسْتِهْزَاءُ وَالتَّعْجِيزُ. وَبِتَنْزِيهِهِ عَنِ النَّقَائِصِ كَانَ مُنَزَّهًا عَنِ الْخُلْفِ وَالْكَذِبِ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَلَا إِنَّ لِلَّهِ ما في السموات وَالْأَرْضِ مُقَدِّمَةٌ تُوجِبُ الْجَزْمَ بِصِحَّةِ قَوْلِهِ. أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ. وَأَلَا كَلِمَةُ تَنْبِيهٍ دَخَلَتْ عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ تَنْبِيهًا لِلْغَافِلِ، إِذْ كَانُوا مَشْغُولِينَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ مِنْ نِسْبَةِ أَشْيَاءَ إِلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِمَنْ جُعِلَ لَهُ بَعْضُ تَصَرُّفٍ فِيهَا وَاسْتِخْلَافٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْنِي:

لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ. فَيَجِبُ أن يكون


(١) سورة يونس: ١٠/ ٦.
(٢) سورة يونس: ١٠/ ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>