بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ: الظَّاهِرُ فِي الْفَاءِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ مَدْلُولَهَا التَّعْقِيبُ أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الصَّادِرَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْ قِصَّةِ الْإِلْقَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، لِأَنَّ مُوسَى هُوَ الْمُحَدَّثُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَائِدًا عَلَى فِرْعَوْنَ لَمْ يَظْهَرْ لَفْظُ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ التَّرْكِيبُ عَلَى خوف منه. ومن ملإهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ، وَهَذَا الْإِيمَانُ مِنَ الذُّرِّيَّةِ كَانَ أَوَّلَ مَبْعَثِهِ إِذْ قَدْ آمَنَ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَوْمُهُ كُلُّهُمْ، كَانَ أَوَّلًا دَعَا الْآبَاءَ فَلَمْ يُجِيبُوهُ خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَجَابَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِمْ مَعَ الْخَوْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ قَوْمًا أَدْرَكَهُمْ مُوسَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَإِنَّمَا آمَنَ ذَرَارِيهِمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ لِطُولِ الزَّمَنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذَا آمَنَ قَوْمٌ بَعْدَ مَوْتِ آبَائِهِمْ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِمْ بَاسِمِ الذُّرِّيَّةِ. وَأَيْضًا فَمَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يُعْطِي هَذَا، وَيَنْفِيهِ قَوْلُهُ: فَمَا آمَنَ، لِأَنَّهُ يُعْطِي تَقْلِيلَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، لِأَنَّهُ نَفَى الْإِيمَانَ ثُمَّ أَوْجَبَهُ لِبَعْضِهِمْ، وَلَوْ كَانَ الْأَكْثَرُ مُؤْمِنًا لَأَوْجَبَ الْإِيمَانَ أَوَّلًا ثُمَّ نَفَاهُ عَنِ الْأَقَلِّ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَخَرَّجُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الذرية: إنه القليل، إلا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ لَفْظَ الذُّرِّيَّةِ بِمَعْنَى الْقَلِيلِ كَمَا ظَنَّ مَكِّيٌّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ ذُرِّيَّةً لِأَنَّ أُمَّهَاتِهِمْ كَانَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِمَاؤُهُمْ مِنَ الْقِبْطِ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَكَانَ يُقَالُ لَهُمُ الذُّرِّيَّةُ كَمَا قِيلَ لِفُرْسِ الْيَمَنِ الْأَبْنَاءُ، وَهُمُ الْفُرْسُ الْمُنْتَقِلُونَ مَعَ وَهُوزَ بِسِعَايَةِ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْمِهِ عَلَى مُوسَى: ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ، وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَ مِصْرَ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نُفْسًا، فَتَوَالَدُوا بمصر حَتَّى صَارُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْمِهِ يَعُودُ عَلَى فِرْعَوْنَ، رُوِيَ أَنَّهُ آمَنَتْ زَوْجَةُ فِرْعَوْنَ وَخَازِنُهُ وَامْرَأَةُ خَازِنِهِ وَشَبَابٌ مِنْ قَوْمِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَالسَّحَرَةُ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ مَعْدُودُونَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا سَبْعِينَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِمَّا يُضَعِّفُ عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا قَدْ فَشَتْ فِيهِمُ السَّوْآتُ، وَكَانُوا فِي مُدَّةِ فِرْعَوْنَ قَدْ نَالَهُمْ ذُلٌّ مُفْرِطٌ، وَقَدْ رَجَوْا كَشْفَهُ عَلَى يَدِ مَوْلُودٍ يَخْرُجُ فِيهِمْ يَكُونُ نَبِيًّا، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْفَقُوا عَلَيْهِ وَبَايَعُوهُ، وَلَمْ يُحْفَظْ قَطُّ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَفَرَتْ بِهِ، فَكَيْفَ تُعْطِي هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ الْأَقَلَّ مِنْهُمْ كَانَ الَّذِي آمَنَ، فَالَّذِي يَتَرَجَّحُ بِحَسَبِ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُحَاوَرَةِ مُوسَى وَرَدِّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى قَوْلِهِمْ هَذَا سِحْرٌ، فَذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ ثُمَّ قَالَ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ الَّذِي هَذِهِ أَقْوَالُهُمْ. وَتَكُونُ الْقِصَّةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute