مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِي الْمُكْرِهِ مَنْ هُوَ، وَمَا هُوَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ وَلَا يُشَارَكُ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَا يَضْطَرُّونَ عِنْدَهُ إِلَى الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ لِلْبَشَرِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: مَشِيئَةُ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إِنَّمَا كَانَ جَمِيعُهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمَشِيئَتِهِ فِيهِمْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَكَانَ الْجَمِيعُ مُؤْمِنًا، فَلَا تَتَأَسَّفْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ عَلَى كُفْرِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِكَ، وَادْعُ وَلَا عَلَيْكَ، فَالْأَمْرُ مَحْتُومٌ. أَتُرِيدُ أَنْتَ أَنْ تُكْرِهَ النَّاسَ بِإِدْخَالِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَضْطَرَّهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَاءَ غَيْرَهُ؟ فَهَذَا التَّأْوِيلُ الْآيَةُ عَلَيْهِ مَحْكَمَةٌ أَيِ: ادْعُ وَقَاتِلْ مَنْ خَالَفَكَ، وَإِيمَانُ مَنْ آمَنَ مَصْرُوفٌ إِلَى الْمَشِيئَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْمَعْنَى أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ بِالْقِتَالِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ؟ وَزَعَمَتْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَالْآيَةُ عَلَى كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ رَادَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ انْتَهَى. وَلِذَلِكَ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى تَفْسِيرِ الْمَشِيئَةِ بِمَشِيئَةِ الْقَسْرِ وَالْإِلْجَاءِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي. وَمَعْنَى إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ لِذَلِكَ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَسْهِيلِهِ وَهُوَ مَنْحُ الْإِلْطَافِ.
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ: وَهُوَ الْخِذْلَانُ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَهُمُ الْمُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَسُمِّيَ الْخِذْلَانُ رِجْسًا وَهُوَ الْعَذَابُ، لِأَنَّهُ سَبَبُهُ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرِّجْسُ السَّخَطُ، وَعَنْهُ الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا لَا خَيْرَ فِيهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالزَّجَّاجُ: الْعَذَابُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَذَابُ وَالْغَضَبُ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: الْكُفْرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشَّيْطَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وَلَكِنْ نَقَلْنَا مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ هُنَا. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: وَيَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْزَ بِالزَّايِ.
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ. فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ:
أَمَرَ تَعَالَى بِالْفِكْرِ فِيمَا أَوْدَعَهُ تَعَالَى في السموات وَالْأَرْضِ، إِذِ السَّبِيلُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى هُوَ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، فَفِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَمَقَادِيرِهَا وَأَوْضَاعِهَا وَالْكَوَاكِبِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ، وَفِي الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ فِي أَحْوَالِ الْعَنَاصِرِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، وَخُصُوصًا حَالُ الْإِنْسَانِ. وَكَثِيرًا مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْحَضَّ عَلَى الْفِكْرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ تَعَالَى وَقَالَ: مَاذَا في السموات وَالْأَرْضِ تَنْبِيهًا عَلَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَالْعَاقِلُ يَتَنَبَّهُ لِتَفَاصِيلِهَا وَأَقْسَامِهَا. ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ بِالنَّظَرِ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ لَا يُؤْمِنُ لَا تُغْنِيهِ الْآيَاتُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute