للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَتْبَاعِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا لَقُوا مِنْ مُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْأَذَى، فَفِي هَذَا كُلِّهِ أُسْوَةٌ بِهِمْ، إِذِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْأُمُورِ الصَّعْبَةِ تُهَوِّنُ مَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مِنَ الْأَذَى، ثُمَّ الْإِعْلَامُ بِمَا جَرَى عَلَى مُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْمُسْتَأْصِلَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ مِنْ غَرَقٍ وَرِيحٍ وَرَجْفَةٍ وَخَسْفٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ طُمَأْنِينَةٌ لِلنَّفْسِ، وَتَأْنِيسٌ بِأَنْ يُصِيبَ اللَّهُ مَنْ كَذَّبَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِالْعَذَابِ، كَمَا جَرَى لِمُكَذِّبِي الرُّسُلِ. وَإِنْبَاءٌ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ، كَمَا اتُّفِقَ لِلرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فِي هَذِهِ، إِلَى أَنْبَاءِ الرُّسُلِ الَّتِي قَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، أَيِ النَّبَأِ الصِّدْقِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُطَابِقٌ بِمَا جَرَى لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرٌ وَلَا تَحْرِيفٌ، كَمَا يَنْقُلُ شَيْئًا من ذلك المؤرخون. وموعظة أَيِ: اتِّعَاظٌ وَازْدِجَارٌ لِسَامِعِهِ، وَذِكْرَى لِمَنْ آمَنَ، إِذِ الْمَوْعِظَةُ وَالذِّكْرَى لَا يَنْتَفِعُ بِهَا إِلَّا الْمُؤْمِنُ كَقَوْلِهِ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ «١» وَقَوْلِهِ: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى «٢» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:

الْإِشَارَةُ إِلَى السُّورَةِ وَالْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا تَذَكُّرُ قَصَصِ الْأُمَمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ السُّورَةِ بِوَصْفِهَا بِالْحَقِّ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَقٌّ، أَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَعِيدِ لِلْكَفَرَةِ وَالتَّنْبِيهِ لِلنَّاظِرِ، أَيْ: جَاءَكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْحَقُّ الَّذِي أَصَابَ الْأُمَمَ الظَّالِمَةَ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ: جَاءَ الْحَقُّ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ يَأْتِي فِي غَيْرِ شَدِيدَةٍ وَغَيْرِ مَا وَجْهٍ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِي ذَلِكَ جَاءَ الْحَقُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْإِشَارَةُ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا. قَالَ قَتَادَةُ:

وَالْحَقُّ النُّبُوَّةُ. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى السُّورَةِ مَعَ نَظَائِرِهَا.

وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ:

اعْمَلُوا صِيغَةُ أَمْرٍ وَمَعْنَاهُ: التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا. عَلَى مَكَانَتِكُمْ أَيْ: جِهَتِكُمْ وَحَالِكُمُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: اعْمَلُوا فِي هَلَاكِي عَلَى إِمْكَانِكُمْ، وَانْتَظِرُوا بِنَا الدَّوَائِرَ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ نَحْوُ مَا اقْتَصَّ اللَّهُ مِنَ النِّقَمِ النَّازِلَةِ بِأَشْبَاهِكُمْ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ إِيتَاءَ مُوَادَعَةٍ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُمَا مَنْسُوخَتَانِ، وَقِيلَ: مُحْكَمَتَانِ، وَهُمَا لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ.

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، وَلَا حَظَّ لِمَخْلُوقٍ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ: يُرْجَعُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. الْأَمْرُ كُلُّهُ أَمْرُهُمْ وَأَمْرُكَ، فَيَنْتَقِمُ لك


(١) سورة الذاريات: ٥١/ ٥٥.
(٢) سورة الأعلى: ٨٧/ ١٠- ١١.

<<  <  ج: ص:  >  >>