مَعَ مَا صَنَعَتْ بِهِ وَتَسَبَّبَتْ فِيهِ مِنَ السِّجْنِ وَالْعَذَابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُقَطِّعَاتِ الْأَيْدِي.
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ فِي رِوَايَةٍ النُّسْوَةِ بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ اللاي بِالْيَاءِ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ الَّتِي. إِنَّ رَبِّي أَيْ: إِنَّ اللَّهَ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. أَرَادَ أَنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لِبُعْدِ عَوْدِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِعِلْمِ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُنَّ كِدْنَهُ، وَأَنَّهُ بَرِيءٌ مِمَّا قُذِفَ بِهِ. أَوْ أَرَادَ الْوَعِيدَ لَهُنَّ، أَوْ هُوَ عَلِيمٌ بِكَيْدِهِنَّ فَيُجَازِيهِنَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالرَّبِّ الْعَزِيزَ مَوْلَاهُ، فَفِي ذَلِكَ اسْتِشْهَادٌ بِهِ وَتَقْرِيعٌ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يَسُوغُ، وَالضَّمِيرُ فِي بِكَيْدِهِنَّ عَائِدٌ عَلَى النِّسْوَةِ الْمَذْكُورَاتِ لَا لِلْجِنْسِ، لِأَنَّهَا حَالَةُ تَوْقِيفٍ عَلَى ذَنْبٍ. قَالَ: مَا خَطْبُكُنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ يُوسُفُ، فَجَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ وَامْرَأَةَ الْعَزِيزِ وَقَالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ؟ وَهَذَا اسْتِدْعَاءٌ مِنْهُ أَنْ يُعْلِمْنَهُ بِالْقِصَّةِ، وَنَزَّهَ جَانِبَ يُوسُفَ بِقَوْلِهِ: إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمُرَاوَدَتُهُنَّ لَهُ قَوْلُهُنَّ لِيُوسُفَ: أَطِعْ مَوْلَاتَكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَلْ وَجَدْتُنَّ مِنْهُ مَيْلًا؟ لَكُنَّ قُلْنَ: حَاشَ لِلَّهِ تَعَجُّبًا مِنْ عِفَّتِهِ، وَذَهَابِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الرِّيبَةِ، وَمِنْ نَزَاهَتِهِ عَنْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَجَابَ النِّسَاءُ بِجَوَابٍ جَيِّدٍ تَظْهَرُ مِنْهُ بَرَاءَةُ أَنْفُسِهِنَّ جُمْلَةً، وَأَعْطَيْنَ يُوسُفَ بَعْضَ بَرَاءَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا قَرَّرَهُنَّ أَنَّهُنَّ رَاوَدْنَهُ قُلْنَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ: حَاشَ لِلَّهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ:
حَاشَ لِلَّهِ، فِي جِهَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُنَّ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ لَيْسَ بِإِبْرَاءٍ تَامٍّ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِبْرَاءُ التَّامُّ وَصْفُ الْقِصَّةِ عَلَى وَجْهِهَا حَتَّى يَتَقَرَّرَ الْخَطَأُ فِي جِهَتِهِنَّ، فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مَقَالَتَهُنَّ وَحَيْدَتَهُنَّ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْخِزْيِ قَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ.
وقرىء حُصْحِصَ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالْمُرَاوَدَةِ، وَالْتَزَمَتِ الذَّنْبَ، وَأَبْرَأَتْ يُوسُفَ الْبَرَاءَةَ التَّامَّةَ.
ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ. وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: قَالَتْ. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِالْحَقِّ، لِيَعْلَمَ يُوسُفُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي غَيْبَتِهِ وَالذَّبِّ عَنْهُ، وَأَرْمِيهِ بِذَنْبٍ هُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ. ثُمَّ اعْتَذَرَتْ عَمَّا وَقَعَتْ فِيهِ مِمَّا يَقَعُ فِيهِ الْبَشَرُ مِنَ الشَّهَوَاتِ بِقَوْلِهَا: وما أبرىء نَفْسِي، وَالنُّفُوسُ مَائِلَةٌ إِلَى الشَّهَوَاتِ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. وَقَالَ الزمخشري: وما أبرىء نَفْسِي مَعَ ذَلِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنِّي قَدْ خُنْتُهُ حِينَ قَذَفْتُهُ وَقُلْتُ: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ، وَأَوْدَعْتُهُ السِّجْنَ تُرِيدُ الِاعْتِذَارَ لِمَا كَانَ مِنْهَا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا نَفْسًا رَحِمَهَا اللَّهُ بِالْعِصْمَةِ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute