رَحِيمٌ، اسْتَغْفَرَتْ رَبَّهَا وَاسْتَرْحَمَتْهُ مِمَّا ارْتَكَبَتْ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ إِلَى آخِرِهِ، مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ يَحْتَاجُ إِلَى تَكَلُّفِ رَبْطٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ. فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِ يُوسُفَ: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِشَارَةٌ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إِلَى إِلْقَائِهِ فِي السِّجْنِ وَالْتِمَاسِهِ البراءة أي: هذا ليعلم سَيِّدِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ يُوسُفُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حِينَ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ كَلَامَهَا إِلَى قَوْلِهَا: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فَالْإِشَارَةُ عَلَى هَذَا إِلَى قَوْلِهَا وَصُنْعِ اللَّهَ فِيهِ، وَهَذَا يَضْعُفُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي حُضُورَهُ مَعَ النِّسْوَةِ عِنْدَ الْمَلِكِ. فَكَيْفَ يَقُولُ الْمَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ: ائْتُونِي بِهِ؟ وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْآيَةَ أَوَّلًا عَلَى أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ فَقَالَ: أَيْ ذَلِكَ التَّثَبُّتُ وَالتَّشَمُّرُ لِظُهُورِ الْبَرَاءَةِ، لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فِي حُرْمَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ لَا يُنْفِذُهُ وَلَا يُسَدِّدُهُ، وَكَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِامْرَأَتِهِ فِي خِيَانَتِهَا فِي أَمَانَةِ زَوْجِهَا، وَبِهِ فِي خِيَانَتِهِ أَمَانَةَ اللَّهِ حِينَ سَاعَدَهَا بَعْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ عَلَى حَبْسِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِأَمَانَتِهِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَائِنًا لَمَا هَدَى اللَّهُ كَيْدَهُ، وَلَا سَدَّدَهُ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِلَّهِ وَيَهْضِمَ نَفْسَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهَا مُزَكِّيًا، وَلِحَالِهَا فِي الْأَمَانَةِ مُعْجَبًا كَمَا
قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»
وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمَانَةِ لَيْسَ بِهِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ وَعِصْمَتِهِ. فَقَالَ: وَمَا أبرىء نَفْسِي مِنَ الزَّلَلِ، وَمَا أَشْهَدُ لَهَا بِالْبَرَاءَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَلَا أُزَكِّيهَا، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. أَرَادَ الْجِنْسَ أَيْ: هَذَا الْجِنْسُ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ، وَيَحْمِلُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ انْتَهَى. وَفِيهِ تَكْثِيرٌ وَتَحْمِيلٌ لِلَفْظِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَيَزِيدُ عَلَى عَادَتِهِ فِي خِطَابَتِهِ. وَلَمَّا أَحَسَّ الزَّمَخْشَرِيُّ بِإِشْكَالِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ قَالَ:
(فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ صَحَّ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : كَفَى بِالْمَعْنَى دَلِيلًا قَائِدًا إِلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ كَلَامِهِ، وَنَحْوُهُ قَوْلِهِ: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ؟ وَهُوَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ يُخَاطِبُهُمْ وَيَسْتَشِيرُهُمْ انْتَهَى. وَهَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ، إِذْ لَا يَتَعَيَّنُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ فِرْعَوْنَ، بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَأِ تَقَدَّمَهُمْ فِرْعَوْنُ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَقَالُوا ذَلِكَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ خِطَابًا لِلْمَلَأِ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَيَكُونُ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ خِطَابًا مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَلَا يتنافى اجتماع المقالتين. وبالغيب يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْفَاعِلِ أَيْ: غَائِبًا عَنْهُ، أَوْ مِنَ الْمَفْعُولِ أَيْ: غَائِبًا عَنِّي، أَوْ ظَرْفًا أَيْ بِمَكَانِ الْغَيْبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute