لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ: إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: خَلْقًا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ. لَمْ يُخْلَقْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَبَثًا وَلَا هَمَلًا، بَلْ لِيُطِيعَ مَنْ أَطَاعَ بِالتَّفَكُّرِ فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، وَلِيَتَذَكَّرَ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بِهَذِهِ النَّشْأَةِ الْأُولَى. وَلِذَلِكَ نَبَّهَ مَنْ يَتَنَبَّهُ بِقَوْلِهِ: وَأَنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، فَيُجَازِي مَنْ أَطَاعَ وَمَنْ عَصَى. ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفْحِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُهَادَنَةَ، وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ قَالَهُ قَتَادَةُ. أَوْ إِظْهَارِ الْحُكْمِ عَنْهُمْ وَالْإِغْضَاءِ لَهُمْ.
ولما ذكر خلق السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ، أَتَى بِصِفَةِ الْمُبَالَغَةِ لِكَثْرَةِ مَا خَلَقَ، أَوِ الْخَلَّاقُ مَنْ شَاءَ لِمَا شَاءَ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
الْخَلَّاقُ الَّذِي خَلَقَكَ وَخَلَقَهُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ بِحَالِكَ وَحَالِهِمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا يَجْرِي بَيْنَكُمْ. أَوْ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَعَلِمَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَكُمْ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الصَّفْحَ الْيَوْمَ أَصْلَحُ إِلَى أَنْ يَكُونَ السَّيْفُ أَصْلُحَ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَالْأَعْمَشُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: هُوَ الْخَالِقُ، وَكَذَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وَعُثْمَانَ، مِنَ الْمَثَانِي.
والمثاني جمع مثناة، وَالْمُثَنَّى كُلُّ شَيْءٍ يُثَنَّى أَيْ: يُجْعَلُ اثْنَيْنِ مِنْ قَوْلِكَ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ ثَنْيًا أَيْ عَطَفْتُهُ وَضَمَمْتُ إِلَيْهِ آخَرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِرُكْبَتَيِ الدَّابَّةِ وَمِرْفَقَيْهِ: مَثَانِي، لِأَنَّهُ يُثْنِي بِالْفَخِذِ وَالْعَضُدِ. وَمَثَانِي الْوَادِي مَعَاطِفُهُ. فَتَقُولُ: سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي مَفْهُومُ سَبْعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُثَنَّى، وَهَذَا مُجْمَلٌ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَعْيِينِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عباس، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ جُبَيْرٍ: السَّبْعُ هُنَا هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ:
الْبَقَرَةِ، وَآلِ عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، وَالْأَعْرَافِ، وَالْأَنْفَالِ، وَبَرَاءَةٌ، لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ سُورَةٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفْصَلْ بَيْنَهُمَا بِالتَّسْمِيَةِ. وَسُمِّيَتِ الطِّوَالُ مَثَانِيَ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْفَرَائِضَ وَالْأَمْثَالَ ثُنِّيَتْ فِيهَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَقِيلَ: السَّابِعَةُ سُورَةُ يُونُسَ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ، وَقِيلَ: بَرَاءَةٌ وَحْدَهَا، قَالَهُ أَبُو مَالِكٍ. وَالْمَثَانِي عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ: الْقُرْآنُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ «١» وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصَصَ وَالْأَخْبَارَ تُثَنَّى فِيهِ وَتُرَدَّدُ. وَقِيلَ: السَّبْعُ آلُ حَمِيم، أَوْ سَبْعُ صحائف
(١) سورة الزمر: ٣٩/ ٢٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute