للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الرَّحْمَةِ هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ أَيْ إِنَّ هَذَا الْخَفْضَ يَكُونُ مِنَ الرَّحْمَةِ الْمُسْتَكِنَّةِ فِي النَّفْسِ لَا بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِعْمَالًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ انْتَهَى. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِأَنْ يَرْحَمَهُمَا رَحْمَتَهُ الْبَاقِيَةَ إِذْ رَحْمَتُهُ عَلَيْهِمَا لَا بَقَاءَ لَهَا. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا وَالْبِرِّ بِهِمَا وَاسْتِرْحَامِ اللَّهِ لَهُمَا وَهِيَ تَرْبِيَتُهُمَا لَهُ صَغِيرًا، وَتِلْكَ الْحَالَةُ مِمَّا تَزِيدُهُ إِشْفَاقًا وَرَحْمَةً لَهُمَا إِذْ هِيَ تَذْكِيرٌ لِحَالَةِ إِحْسَانِهِمَا إِلَيْهِ وَقْتَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الْإِحْسَانِ لِنَفْسِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هَذَا اللَّفْظَ يَعْنِي وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ «١» وَقِيلَ: هِيَ مَخْصُوصَةٌ فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ. وَقِيلَ لَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِوَالِدَيْهِ الْكَافِرَيْنِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَأَنْ يَطْلُبَ الرَّحْمَةَ لَهُمَا بَعْدَ حُصُولِ الْإِيمَانِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكَافَ فِي كَما لِلتَّعْلِيلِ أَيْ رَبِّ ارْحَمْهُما لِتَرْبِيَتِهِمَا لِي وَجَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِمَا إِلَيَّ حَالَةَ الصِّغَرِ وَالِافْتِقَارِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: الْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ رَحْمَةً مِثْلَ تَرْبِيَتِي صَغِيرًا.

وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَما نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ رَحْمَةً مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا. وَسَرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَحَادِيثَ وَآثَارًا كَثِيرَةً فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِمْ. وَلَمَّا نَهَى تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْكِبَرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ رُبَّمَا تَظَاهَرَ بِعِبَادَةٍ وَإِحْسَانٍ إِلَى وَالِدَيْهِ دُونَ عَقْدِ ضَمِيرٍ عَلَى ذَلِكَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ مِنْ دُونِ قَصْدِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أَيْ ذَوِي صَلَاحٍ ثُمَّ فَرَطَ مِنْكُمْ تَقْصِيرٌ فِي عِبَادَةٍ أَوْ بِرٍّ وَأُبْتُمْ إِلَى الْخَيْرِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ لِمَا فَرَطَ مِنْ هَنَاتِكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ فَرَطَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ جَنَى عَلَى أَبَوَيْهِ ثُمَّ تَابَ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ فِي الْمُبَارَزَةِ تَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى أَبِيهِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ.

وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.


(١) سورة التوبة: ٩/ ١١٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>