لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَمَرَ بِصِلَةِ الْقَرَابَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي قَرَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ وَأَلْحَقَ هُنَا مَا يَتَعَيَّنُ لَهُ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَسَدِّ الْخَلَّةِ، وَالْمُوَاسَاةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِالْمَالِ وَالْمَعُونَةِ بِكُلِّ وَجْهٍ.
قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وغيرهم.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فِيهَا: هُمْ قُرَابَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ بِإِعْطَائِهِمْ حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ هُنَا مُجْمَلٌ وَأَنَّ ذَا الْقُرْبى عَامٌّ فِي ذِي الْقَرَابَةِ فَيُرْجَعُ فِي تَعْيِينِ الْحَقِّ وَفِي تَخْصِيصِ ذِي الْقَرَابَةِ إِلَى السُّنَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْقَرَابَةَ إِذَا كَانُوا مَحَارِمَ فُقَرَاءَ عَاجِزِينَ عَنِ التَّكَسُّبِ وَهُوَ مُوسِرٌ حَقُّهُمْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يُنْفِقُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ فَحَسْبُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَنَهَى تَعَالَى عَنِ التَّبْذِيرِ وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَنْحَرُ إِبِلَهَا وَتَتَيَاسَرُ عَلَيْهَا وَتُبَذِّرُ أَمْوَالَهَا فِي الْفَخْرِ وَالسُّمْعَةِ وَتَذْكُرُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ النَّفَقَةِ فِي غَيْرِ وُجُوهِ الْبِرِّ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: التَّبْذِيرُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي حَقٍّ مَا كَانَ مُبَذِّرًا. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْإِسْرَافُ الْمُتْلِفُ لِلْمَالِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْحَجْرِ عَلَى الْمُبَذِّرِ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْهُ بِالْحَجْرِ وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلتَّبْذِيرِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِنْ بَذَلَهُ فِي الشَّهَوَاتِ وَخِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ، فَإِنْ أَنْفَقَ وَحَفِظَ الْأَصْلَ فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ وَأُخُوَّةُ الشَّيَاطِينِ كَوْنُهُمْ قُرَنَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَدُلُّ هَذِهِ الْأُخُوَّةُ عَلَى أَنَّ التَّبْذِيرَ هُوَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ كَوْنِهِمْ يُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ إِخْوَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَكَذَا ثَبَتَ فِي مُصْحَفِ أَنَسٍ، وَذُكِرَ كُفْرُ الشَّيْطَانِ لِرَبِّهِ لِيُحْذَرَ وَلَا يُطَاعَ لِأَنَّهُ لا يدعو إلى خيركما قَالَ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ مُزَيْنَةَ اسْتَحْمَلُوا الرَّسُولَ فَقَالَ: «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» . فَبَكَوْا.
وَقِيلَ فِي بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَالِمٍ وَخَبَّابٍ: سَأَلُوهُ مَا لَا يَجِدُ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي وَسُئِلَ قَالَ: «يَرْزُقُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ فَضْلِهِ»
فَالرَّحْمَةُ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ الْمُنْتَظَرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّحْمَةُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ وَإِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْبَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُمْ نَفَقَةَ الْمَالِ فِي فَسَادٍ، فَكَانَ يُعْرِضُ عَنْهُمْ وَعَنْهُ فِي الْأَجْرِ فِي مَنْعِهِمْ لِئَلَّا يُعِينَهُمْ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute