إِذا كِلْتُمْ أَيْ وَقْتَ كَيْلِكُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ، وَأَنْ لَا يَتَأَخَّرَ الْإِيفَاءُ بِأَنْ يَكِيلَ بِهِ بِنُقْصَانٍ مَا ثُمَّ يُوَفِّيهِ بَعْدُ فَلَا يَتَأَخَّرُ الْإِيفَاءُ عَنْ وَقْتِ الْكَيْلِ.
ذلِكَ خَيْرٌ أَيِ الْإِيفَاءُ وَالْوَزْنُ لِأَنَّ فِيهِ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ بِالِاتِّسَامِ بِالْعَدْلِ وَالْإِيصَالِ لِلْحَقِّ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ عَاقِبَةً، إِذْ لَا يَبْقَى عَلَى الْمُوفِي وَالْوَازِنِ تَبِعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مِنَ الْمَآلِ وَهُوَ الْمَرْجِعُ كَمَا قَالَ: خَيْرٌ مَرَدًّا، خَيْرٌ عُقْبًا، خَيْرٌ أَمَلًا وَإِنَّمَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسُنُ لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ التَّطْفِيفِ، فَعُوِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمَالَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ.
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.
لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالْإِيفَاءِ بِالْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بثلاثة أمّناه: وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ وَلا تَجْعَلْ. وَمَعْنَى وَلا تَقْفُ لَا تَتَّبِعْ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، نَهَى أَنْ نَقُولَ مَا لَا نَعْلَمُ وَأَنْ نَعْمَلَ بِمَا لَا نَعْلَمُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ بِمَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَعْنَاهُ لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَا تَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَهْ وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْهُ وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن الحنيفة: لَا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا تَقُلْ لَكِنَّهَا كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَذْفِ وَالْعَضْهِ انْتَهَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ» .
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنُ كِنَانَةَ لَا تَقْفُو مِنَّا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا» .
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعِرَانِينَ سَاكِنٌ ... بِهِنَّ الْحَيَا لَا يَتَّبِعْنَ التَّقَافِيَا
وَقَالَ الْكُمَيْتُ
فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ... وَلَا أَقْفُو الْحَوَاضِنَ إِنْ قُفِينَا
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ نَهَى عَنِ اتِّبَاعِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ تَنْدَرِجُ تَحْتَهَا أنواع.
فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مُبْطِلُ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّرْعُ غَالِبَ الظَّنِّ مَقَامَ الْعِلْمِ وَأَمَرَ