للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً.

قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لَوْ أَبْعَدْتَ هَؤُلَاءِ عَنْ نَفْسِكَ لَجَالَسْنَاكَ وَصَحَبْنَاكَ، يَعْنُونَ عَمَّارًا وَصُهَيْبًا وَسَلْمَانَ وَابْنَ مَسْعُودٍ وَبِلَالًا وَنَحْوَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ ريح جبابهم تُؤْذِينَا، فَنَزَلَتْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ

الْآيَةَ، وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حصين وَالْأَقْرَعُ وَذَوُوهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَنَزَلَتْ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا مَدَنِيَّةٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَفَعَلَ الْمُؤَلَّفَةُ فِعْلَ قُرَيْشٍ فَرَدَّ بِالْآيَةِ عَلَيْهِمْ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أَيِ احْبِسْهَا وَثَبِّتْهَا. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:

فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ

وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ صَبْرِ الْحَيَوَانِ أي حبسه للرمي

، ومَعَ تَقْتَضِي الصُّحْبَةَ وَالْمُوافَقَةَ وَالْأَمْرُ بِالصَّبْرِ هُنَا يَظْهَرُ مِنْهُ كَبِيرُ اعْتِنَاءٍ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أُمِرَ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ. وَهِيَ أَبْلَغُ مِنَ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ «١» الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمُجَاهِدٌ وَإِبْرَاهِيمُ:

بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ إِشَارَةٌ إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ أَيْ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ دَائِمًا، وَيَكُونُ مِثْلَ: ضَرَبَ زَيْدٌ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ يُرِيدُ جَمِيعَ بَدَنِهِ لَا خُصُوصَ الْمَدْلُولِ بِالْوَضْعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ قِرَاءَةً وَإِعْرَابًا فِي الْأَنْعَامِ.

وَلا تَعْدُ أَيْ لَا تَصْرِفْ عَيْناكَ النَّظَرَ عَنْهُمْ إِلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَعَدَا مُتَعَدٍّ تَقُولُ:

عَدَا فُلَانٌ طَوْرَهُ وَجَاءَ الْقَوْمُ عَدَا زَيْدًا، فَلِذَلِكَ قَدَّرْنَا الْمَفْعُولَ مَحْذُوفًا لِيَبْقَى الْفِعْلُ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ التَّعْدِيَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا عُدِّيَ بِعْنَ لِتَضْمِينِ عَدَا مَعْنَى نَبَا وَعَلَا فِي قَوْلِكَ: نَبَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ، وَعَلَتْ عَنْهُ عَيْنُهُ إِذَا اقْتَحَمْتَهُ وَلَمْ تَعْلَقْ بِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ غَرَضٍ فِي هَذَا التَّضْمِينِ؟ وَهَلَّا قِيلَ وَلَا تَعْدُهُمْ عَيْنَاكَ أَوْ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ. قُلْتُ: الْغَرَضُ فِيهِ إِعْطَاءُ مَجْمُوعِ مَعْنَيَيْنِ. وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إِعْطَاءِ مَعْنًى فَذٍّ، أَلَا تَرَى كَيْفَ رَجَعَ الْمَعْنَى إِلَى قَوْلِكَ وَلَا تَقْتَحِمُهُمْ عَيْنَاكَ مُجَاوَزِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ وَنَحْوَ قَوْلِهِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «٢» أَيْ وَلَا تَضُمُّوهَا إِلَيْهَا آكِلِينَ لَهَا انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّضْمِينِ لَا يَنْقَاسُ عند


(١) سورة الأنعام: ٦/ ٥٢.
(٢) سورة النساء: ٤/ ٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>