للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

امْتِثَالِ مَا تَظْهَرُ فِيهِ حِكْمَةٌ، لِأَنَّهَا طَوَاعِيَةٌ صِرْفٌ، وَعُبُودِيَّةٌ مَحْضَةٌ، وَاسْتِسْلَامٌ خَالِصٌ، بِخِلَافِ مَا تَظْهَرُ لَهُ حِكْمَةٌ، فَإِنَّ فِي الْعَقْلِ دَاعِيَةً إِلَى امْتِثَالِهِ، وَحَضًّا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْمُنْتَخَبِ: إِنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ الْقَتِيلِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا لِأَمْرِهِ تَعَالَى بِالذَّبْحِ، فَأَمَّا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِ ذَلِكَ الْقَتِيلِ، وَعَنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْبَقَرَةِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قِصَّةِ الْبَقَرَةِ. فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْقِصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى خَطَأٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي نَفْسِهَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْأُولَى فِي الْوُجُودِ. فَأَمَّا التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّهُ تَارَةً يُقَدَّمُ ذِكْرُ السَّبَبِ عَلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ، وَأُخْرَى عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَلَمَّا ذَبَحُوهَا قَالَ: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً مِنْ قَبْلُ وَاخْتَلَفْتُمْ فَإِنِّي مُظْهِرٌ لَكُمُ الْقَاتِلَ الَّذِي سَتَرْتُمُوهُ، بِأَنْ يُضْرَبَ الْقَتِيلُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّةُ الْأَمْرِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ عَلَى ذِكْرِ الْقَتِيلِ، لِأَنَّهُ لَوْ عَكَسَ، لَمَا كَانَتْ قِصَّةً وَاحِدَةً، وَلَذَهَبَ الْغَرَضُ فِي تَثْنِيَةِ التَّقْرِيعِ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ وَقَعَ أَوَّلًا، ثُمَّ أُمِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنَ الْقِصَصِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا حَمْلَ الْآيَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا وَأَنَّ الْقَتْلَ تَأَخَّرَ، كَحَالِهِمَا فِي التِّلَاوَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ حَسَنٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ، فِي الْجُمَلِ، وَفِي الْكَلِمَاتِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَوْرَدَ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا، مِنْ ذَلِكَ: قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِهْلَاكِ قَوْمِهِ، وَقَوْلُهُ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها «١» ، وَفِي حُكْمِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا بِالتَّرَبُّصِ بِالْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ، وَبِمَتَاعٍ إِلَى الْحَوْلِ، إِذِ النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ، وَالْمَنْسُوخُ مُتَأَخِّرٌ. وَذَكَرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْكَلِمَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ عَلَى زَعْمِهِ كَثِيرًا، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ مِنَ الضَّرَائِرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ الْقُرْآنُ عَنْهُ. وَنِسْبَةُ الْقَتِيلِ إِلَى جَمْعٍ، إِمَّا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ جَمْعٌ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، أَوْ لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ، وَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِيهِمْ، عَلَى طَرِيقَةِ الْعَرَبِ فِي نِسْبَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْقَبِيلَةِ، إِذَا وُجِدَ مِنْ بَعْضِهَا مَا يُذَمُّ بِهِ أَوْ يُمْدَحُ.

فَادَّارَأْتُمْ فِيها قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالْإِدْغَامِ، وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: فَتَدَارَأْتُمْ، عَلَى وزن


(١) سورة هود: ١١/ ٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>