للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثَمَنِهَا، وَإِمَّا خَوْفُ فَضِيحَةِ الْقَاتِلِ، وَإِمَّا قِلَّةُ انْقِيَادٍ وَتَعَنُّتٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى مَا عُهِدَ مِنْهُمْ.

وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبَقَرَةِ الْمَذْبُوحَةِ: أَهِيَ الَّتِي أُمِرُوا أَوَّلًا بِذَبْحِهَا، وَأَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا أَوَّلًا لَمَا وَقَعَ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمُعَيَّنَةِ؟ أَمِ الْمَأْمُورُ بِهَا أَوَّلًا هِيَ بَقَرَةٌ غَيْرُ مَخْصُوصَةٍ، ثُمَّ انْقَلَبَتْ مَخْصُوصَةً بِلَوْنٍ وَصِفَاتٍ، فَذَبَحُوا الْمَخْصُوصَةَ؟ فَكَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مَخْصُوصًا لِانْتِقَالِ الْحُكْمِ مِنَ الْبَقَرَةِ الْمُطْلَقَةِ إِلَى الْبَقَرَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَيَجُوزُ النَّسْخُ قَبْلَ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَقَرَةَ الْمَخْصُوصَةَ يَتَنَاوَلُهَا الْأَمْرُ بِذَبْحِ بِقَرَةٍ، فَلَوْ وَقَعَ الذَّبْحُ عَلَيْهَا بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ، لَكَانُوا مُمْتَثِلِينَ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الثَّانِي: هَلِ الْوَاجِبُ كَوْنُهَا بِالصِّفَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهِيَ كَوْنُهَا لَا ذَلُولٌ إِلَى آخِرِهِ؟ أَمْ يَنْضَافُ إِلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي جَوَابِ السُّؤَالَيْنِ قَبْلُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْوَصْفِ الْأَخِيرِ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ، وَصَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا؟ وَالَّذِي نَخْتَارُهُ هَذَا الثَّانِي، لِأَنَّ الظَّاهِرَ اشْتِرَاكُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا هي، وما لونها، وما هِيَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اشْتُهِرَ فِي الْإِخْبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ الْبَيَانُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بَعْدَ تَكْلِيفٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ التَّسْهِيلِ بِالْأَشَقِّ، وَعَلَى جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ.

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً: مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ «١» . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ وَجُودِهِمَا وَنُزُولِهِمَا عَلَى حَسَبِ تِلَاوَتِهِمَا، فَيَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، فَذَبَحُوهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ بِمَا لَهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ السِّرِّ، ثُمَّ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرُ الْقَتِيلِ، فَأَظْهَرَ لَهُمْ مَا كَانَ أَخْفَاهُ عَنْهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ بِقَوْلِهِ: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، وَلَا شَيْءَ يَضْطَرُّنَا إِلَى اعْتِقَادِ تَقَدُّمِ قَتْلِ الْقَتِيلِ. ثُمَّ سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ قَاتِلِهِ، إِذْ كَانُوا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ مُتَقَدِّمًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ، وَيَكُونُ قَتْلُ الْقَتِيلِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ، وَالتِّلَاوَةِ مُتَقَدِّمًا فِي الْوُجُودِ، وَلَا إِلَى اعْتِقَادِ كَوْنِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ وَمَا بَعْدَهُ مُؤَخَّرًا فِي النُّزُولِ، مُتَقَدِّمًا فِي التِّلَاوَةِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ قَتْلِهِمْ مُقَدَّمًا فِي النُّزُولِ، مُتَأَخِّرًا فِي التِّلَاوَةِ، دُونَ تَعَرُّضٍ لِزَمَانِ وُجُودِ الْقِصَّتَيْنِ. وَإِنَّمَا حَمَلَ مَنْ حَمَلَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، اعْتِبَارَ مَا رَوَوْا مِنَ الْقَصَصِ الَّذِي لَا يَصِحُّ، إِذْ لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ أَوْلَى، إِذِ الْعُدُولُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ، إِنَّمَا يَكُونُ لِمُرَجِّحٍ، وَلَا مُرَجِّحَ، بَلْ تَظْهَرُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي تَكْلِيفِهِمْ أَوَّلًا ذَبْحَ بَقَرَةٍ. هَلْ يَمْتَثِلُونَ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَامْتِثَالُ التَّكَالِيفِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ فِيهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ حِكْمَةٌ أَعْظَمُ مِنِ


(١) سورة البقرة: ٢/ ٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>