وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً.
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ صَدْرِ هذه الآية: وشَيْءٍ هُنَا مُفْرَدٌ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْ أَكْثَرَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَتَأَتَّى مِنْهَا الْجِدَالُ إِنْ فَصَّلْتَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. جَدَلًا خُصُومَةً وَمُمَارَاةً يَعْنِي أَنَّ جَدَلَ الْإِنْسَانِ أَكْثَرُ مِنْ جَدَلِ كُلِّ شَيْءٍ وَنَحْوُهُ، فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَانْتَصَبَ جَدَلًا عَلَى التَّمْيِيزِ. قِيلَ: الْإِنْسانُ هُنَا النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. وَقِيلَ: ابْنُ الزِّبَعْرَى. وَقِيلَ:
أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ جِدَالُهُ فِي الْبَعْثِ حِينَ أَتَى بِعَظْمٍ فَذَرَّهُ، فَقَالَ: أَيَقْدِرُ اللَّهُ عَلَى إِعَادَةِ هَذَا؟ قَالَهُ ابْنُ السَّائِبِ. قِيلَ: كُلُّ مَنْ يَعْقِلُ مِنْ مَلَكٍ وَجِنٍّ يُجَادِلُ والْإِنْسانُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَدَلًا انْتَهَى.
وَكَثِيرًا مَا يُذْكَرُ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ
وَقَدْ تَلَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا حِينَ عَاتَبَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَلَى النَّوْمِ عَنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ:
إِنَّمَا نَفْسِي بِيَدِ اللَّهِ
، فَاسْتُعْمِلَ الْإِنْسانُ عَلَى الْعُمُومِ. وَفِي قوله وَما مَنَعَ النَّاسَ الْآيَةَ تَأَسُّفٌ عَلَيْهِمْ وَتَنْبِيهٌ عَلَى فَسَادِ حَالِهِمْ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْعَ لَمْ يَكُنْ بِقَصْدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا لِيَجِيئَهُمُ الْعَذَابُ، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا هُمْ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ مُصِيبُونَ لَكِنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ يَسُوقُهُمْ إِلَى هَذَا فَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي التَّأَسُّفَ عليهم. والنَّاسَ يُرَادُ بِهِ كُفَّارُ عَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا دَفْعَ الشَّرِيعَةِ وَتَكْذِيبَهَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْأُولَى نَصْبٌ وَالثَّانِيَةَ رَفْعٌ وَقَبْلَهُمَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ وَما مَنَعَ النَّاسَ الْإِيمَانَ إِلَّا انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وَهِيَ الْإِهْلَاكُ أَوْ انْتِظَارُ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ يَعْنِي عَذَابَ الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَهُوَ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: تَقْدِيرُهُ مَا مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا طَلَبُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْمَعْنَى مَا مَنَعَهُمْ إِلَّا أَنِّي قَدْ قَدَّرْتُ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ قُتِلَ بِبَدْرٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute