للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السَّلَامُ أَوَّلَ نَبِيٍّ أُوحِيَ إِلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِنَّمَا طَرِيقُهَا السَّمْعُ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْهُ لِأَبِيهِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي أَبِيهِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا رُوِيَ، وَإِمَّا أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ الْحَتْمُ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ إِنَّمَا هُوَ السَّمْعُ، فَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَلَا تَأْبَاهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالْوَفَاءُ بِهِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ بِنَاءً عَلَى قَضِيَّةِ الْعَقْلِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «١» فَلَوْ كَانَ شَارِطًا لِلْإِيمَانِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَرًا ومستثنى عما وجب فِيهِ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ لِأَنَّهُ وَعَدَهُ أَنْ يُؤْمِنَ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ «٢» فَجَعَلَ الْوَاعِدَ آزَرَ وَالْمَوْعُودَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِاعْتِقَابِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْوَعْدَ بِالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ الجافي في قَوْلِهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ الْآيَةَ. فَكَيْفَ يَكُونُ وَعْدُهُ بِالْإِيمَانِ؟ وَلِأَنَّ الْوَاعِدَ هُوَ إِبْرَاهِيمُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ حَمَّادٍ الرَّاوِيَةِ وَعَدَهَا إِيَّاهُ.

وَالْحَفِيُّ الْمُكْرِمُ الْمُحْتَفِلُ الْكَثِيرُ الْبِرِّ وَالْأَلْطَافِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ لُغَةً فِي قَوْلِهِ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها «٣» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَحِيمًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَلِيمًا. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ: بَارًّا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: حَفِيُّكَ مَنْ يَهُمُّهُ أَمْرُكَ، وَلَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ لَأَرْجُمَنَّكَ فَظَاظَةٌ وَقَسَاوَةُ قَلْبٍ قَابَلَهُ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِالسَّلَامِ وَالْأَمْنِ وَوَعَدَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ قَضَاءً لِحَقِّ الْأُبُوَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُ إِغْلَاظٌ. وَلَمَّا أَمَرَهُ بِهَجْرِهِ الزَّمَانَ الطَّوِيلَ أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ يَتَمَثَّلُ أَمْرَهُ وَيَعْتَزِلُهُ وَقَوْمَهُ وَمَعْبُودَاتِهِمْ، فَهَاجَرَ إِلَى الشَّامِ قِيلَ أَوْ إِلَى حَرَّانَ وَكَانُوا بِأَرْضِ كَوْثَاءَ، وَفِي هِجْرَتِهِ هَذِهِ تَزَوَّجَ سَارَةَ وَلَقِيَ الْجَبَّارَ الَّذِي أَخْدَمَ سَارَةَ هَاجَرَ، وَالْأَظْهَرُ أن قوله وَأَدْعُوا رَبِّي مَعْنَاهُ وَأَعْبُدُ رَبِّي كَمَا جَاءَ

فِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ الْعِبَادَةُ»

لِقَوْلِهِ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الدُّعَاءُ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً «٤» إِلَى آخِرِهِ، وَعَرَّضَ بِشَقَاوَتِهِمْ بِدُعَاءِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا مَعَ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ فِي كَلِمَةِ عَسى وَمَا فِيهِ مِنْ هَضْمِ النَّفْسِ. وَفِي عَسى تَرَجٍّ فِي ضِمْنِهِ خَوْفٌ شَدِيدٌ، وَلَمَّا فَارَقَ الْكُفَّارَ وَأَرْضَهُمْ أَبْدَلَهُ مِنْهُمْ أَوْلَادًا أَنْبِيَاءَ، وَالْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ فَكَانَ فِيهَا وَيَتَرَدَّدُ إِلَى مَكَّةَ فَوُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ وَابْنُهُ يَعْقُوبُ تَسْلِيَةً لَهُ وَشَدًّا لِعَضُدِهِ، وَإِسْحَاقُ أَصْغَرُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمَّا حَمَلَتْ هَاجَرُ بِإِسْمَاعِيلَ غَارَتْ سَارَةُ ثُمَّ حَمَلَتْ بإسحاق.


(١) سورة الممتحنة: ٦٠/ ٤.
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١١٤.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٧.
(٤) سورة الشعراء: ٢٦/ ٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>