للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَحْجَارِ الَّتِي تَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَمْيِيزًا قَامَ لَهَا مَقَامَ الْفِعْلِ الْمُودَعِ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ بَعْضَ الْحِجَارَةِ بِالْخَشْيَةِ، وَبَعْضَهَا بِالْإِرَادَةِ، وَوَصَفَ جَمِيعَهَا بِالنُّطْقِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّأْوِيبِ وَالتَّصَدُّعِ، وَكُلُّ هَذِهِ صِفَاتٌ لَا تَصْدُرُ إِلَّا عَنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ وَالْمَعْرِفَةِ. قَالَ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ «١» الْآيَةَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «٢» ، يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «٣» ،

وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ وَأَنَّهُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ مَا مَرَّ بِحَجْرٍ وَلَا مُدَرٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَفِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِنَّهُ يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ» .

وَفِي حَدِيثِ الْحَجَرِ الَّذِي فَرَّ بِثَوْبِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَارَ يَعْدُو خَلْفَهُ وَيَقُولُ: «ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ» .

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أُحُدٍ: «إِنَّ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» .

وَفِي حَدِيثِ حِرَاءٍ: «لَمَّا اهْتَزَّ اسْكُنْ حِرَاءُ» .

وَفِي حَدِيثِ: «تَسْبِيحِ صِغَارِ الْحَصَى بِكَفِّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .

وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَأَحَادِيثُ أُخَرُ عَلَى نُطْقِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَانْقِيَادِ الشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهَا قُوَّةً مُمَيِّزَةً، وَصِفَةً نَاطِقَةً، وَحَرَكَةً اخْتِيَارِيَّةً، لَمَا صَدَرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا حَسُنَ وَصْفُهَا بِهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مُصْدَرٌ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحَجَرِ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْبَرَدُ، وَالْمُرَادُ بِخَشْيَةِ اللَّهِ: إِخَافَتُهُ عِبَادَهُ، فَأَطْلَقَ الْخَشْيَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ الْإِخْشَاءَ، أَيْ نُزُولُ الْبَرَدِ بِهِ، يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَيَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَكَلَّفٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ. وَالْبَرَدُ لَيْسَ بِحِجَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَدَّ عِنْدَ النُّزُولِ، فَهُوَ مَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ قَوْمٌ: الْخَشْيَةُ هُنَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ، وَفَاعِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْعِبَادُ.

والمعنى: إن من الحجارة مَا يَنْزِلُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ عِنْدِ الزَّلْزَلَةِ مِنْ خَشْيَةِ عِبَادِ اللَّهِ إِيَّاهُ.

وَتَحْقِيقُهُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا خَشْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَتْ تِلْكَ الْخَشْيَةُ كَالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي ذَلِكَ الْهُبُوطِ، فَكَانَ الْمَعْنَى: لَمَا يَهْبِطُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَذَهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ حَقِيقَةٌ، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُلُوبِ، وَالْمَعْنَى: إِنَّ مِنَ الْقُلُوبِ قُلُوبًا تَطْمَئِنُّ وَتَسْكُنُ، وَتَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَكَنَّى بِالْهُبُوطِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ قُلُوبَ الْمُخْلِصِينَ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ بَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ مِنْها، فَظَاهِرُ الكلام


(١) سورة الحشر: ٥٩/ ٢١.
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٤٤.
(٣) سورة سبأ: ٣٤/ ١٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>