للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّقْسِيمُ لِلْحِجَارَةِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ، وَالْهُبُوطُ لَا يَلِيقُ بِالْقُلُوبِ، إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْحِجَارَةِ. وَلَيْسَ تَأْوِيلُ الْهُبُوطِ بِأَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْخَشْيَةِ إِنْ تَأَوَّلْنَاهَا. وَقَدْ أَمْكَنَ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي تَضَمَّنَتْ حَمْلَهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَقْوَالِ أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الَّذِي يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ هُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذْ جَعَلَهُ دَكًّا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْخَشْيَةَ هُنَا مَجَازٌ مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ، كَمَا اسْتُعِيرَتِ الْإِرَادَةُ لِلْجِدَارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ «١» ، وَكَمَا قَالَ زَيْدُ الْخَيْلِ:

بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حُجُرَاتِهِ ... تَرَى الْأُكْمَ مِنْهُ سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ

وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:

لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَضَعْضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعُ

أَيْ مَنْ رَأَى الْحَجَرَ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، تَخَيَّلَ فِيهِ الْخَشْيَةَ، فَاسْتَعَارَ الْخَشْيَةَ، كِنَايَةً عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ عَلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا. فَمَنْ يَرَاهَا يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ الِانْفِعَالَ السَّرِيعَ هُوَ مَخَافَةُ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالنُّطْقَ لَا يَحِلَّانِ فِي الْجَمَادَاتِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُمْ. وَتَأَوَّلُوا مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَرَنَ بِهَا مَلَائِكَةً، هِيَ الَّتِي تُسَلِّمُ وَتَتَكَلَّمُ،

كَمَا وَرَدَ أَنَّ الرَّحِمَ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تُنَادِي: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي.

وَالْأَرْحَامُ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ، وَلَا لَهَا إِدْرَاكٌ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَسْجُدَ الْمَعَانِي، أَوْ تَتَكَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا مَلَكًا يَقُولُ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَتَأَوَّلُوا: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ونحبه، أي يحبه أَهْلُهُ وَنُحِبُّ أَهْلَهُ، كَقَوْلِهِ تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢» . وَاخْتِيَارُ ابْنِ عَطِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْحِجَارَةِ قَدْرًا مَا مِنَ الْإِدْرَاكِ، تَقَعُ بِهِ الْخَشْيَةُ وَالْحَرَكَةُ. وَاخْتِيَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّ الْخَشْيَةَ مَجَازٌ عَنِ الِانْقِيَادِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ امْتِنَاعِهَا، وَتَرْتِيبُ تَقْسِيمِ هَذِهِ الْحِجَارَةِ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ جِدًّا، وَهُوَ عَلَى حَسَبِ التَّرَقِّي. فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالَّذِي تَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ، أَيْ خُلِقَ ذَا خُرُوقٍ مُتَّسِعَةٍ، فَلَمْ يُنْسَبْ إِلَيْهِ فِي نَفْسِهِ تَفَعُّلٌ وَلَا فِعْلٌ، أَيْ أَنَّهَا خُلِقَتْ ذَاتَ خُرُوقٍ بِحَيْثُ لَا يُحْتَاجُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهَا صُدُورُ فِعْلٍ مِنْهَا. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا يَسِيرًا، وَهُوَ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ تَشَقُّقٌ بِحَيْثُ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ. ثُمَّ تَرَقَّى مِنْ هَذَا الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ الَّذِي يَنْفَعِلُ انْفِعَالًا عَظِيمًا، بِحَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَتَدَهْدَهُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ، ثُمَّ رَسَّخَ هَذَا الانفعال التامّ بأن


(١) سورة الكهف: ١٨/ ٧٧.
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٨٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>