ذَهَابِ خَوْفِهِ وَطَمَأْنِينَةِ نَفْسِهِ أَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فَمِهَا وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهَا
وَيَبْعُدُ مَا ذَكَرَهُ مَكِّيٌّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ خُذْ مَرَّةً وَثَانِيَةً حَتَّى قِيلَ لَهُ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى فَأَخَذَهَا فِي الثَّالِثَةِ لِأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ لَا يَلِيقُ أَنْ يَأْمُرَهُ رَبُّهُ مَرَّةً وَثَانِيَةً فَلَا يَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ، وَحِينَ أَخَذَهَا بِيَدِهِ صَارَتْ عَصًا وَالسِّيرَةُ مِنَ السَّيْرِ كَالرِّكْبَةِ وَالْجِلْسَةِ، يُقَالُ: سَارَ فُلَانٌ سِيرَةً حَسَنَةً ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهَا فَنُقِلَتْ إِلَى مَعْنَى الْمَذْهَبِ وَالطَّرِيقَةِ. وَقِيلَ: سَيْرُ الْأَوَّلِينَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَا تَغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا
وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ سِيرَتَهَا فَقَالَ الْحَوْفِيُّ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِسَنُعِيدُهَا عَلَى حَذْفِ الْجَارِّ مِثْلُ وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «١» يَعْنِي إِلَى سِيرَتَهَا قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَفْعُولِ سَنُعِيدُها. وَقَالَ هَذَا الثَّانِي أَبُو الْبَقَاءِ قَالَ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ أَيْ صِفَتُهَا وَطَرِيقَتُهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ سَنُعِيدُها فِي طَرِيقَتِهَا الْأُولَى أَيْ فِي حَالِ مَا كَانَتْ عَصًا انْتَهَى. وسِيرَتَهَا وَطَرِيقَتُهَا ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَيْهِ الْفِعْلُ عَلَى طَرِيقَةِ الظَّرْفِيَّةِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ، فِي وَلَا يَجُوزُ الْحَذْفُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ أَوْ فِيمَا شَذَّتْ فِيهِ الْعَرَبُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ عَادَهُ بِمَعْنَى عَادَ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ بَيْتُ زُهَيْرٍ:
وَعَادَكَ أَنْ تَلَاقِيَهَا عَدَاءٌ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَوْفِيُّ. قَالَ: وَوَجْهٌ ثَالِثٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ سَنُعِيدُها مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُتَعَلِّقٍ بِسِيرَتِهَا، بِمَعْنَى أَنَّهَا أُنْشِئَتْ أَوَّلَ مَا أُنْشِئَتْ عَصًا ثُمَّ ذَهَبَتْ وَبَطَلَتْ بِالْقَلْبِ حَيَّةً، فَسَنُعِيدُهَا بَعْدَ الذَّهَابِ كَمَا أَنْشَأْنَاهَا أَوَّلًا وَنَصْبُ سِيرَتَهَا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أَيْ تَسِيرُ سِيرَتَهَا الْأُولى يَعْنِي سَنُعِيدُها سَائِرَةً سِيرَتَهَا الْأُولى حَيْثُ كُنْتَ تَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، وَلَكَ فِيهَا الْمَآرِبُ الَّتِي عَرَفْتَهَا انْتَهَى.
وَالْجَنَاحُ حَقِيقَةً فِي الطَّائِرِ وَالْمَلَكِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى الْعَضُدِ وَعَلَى جَنْبِ الرَّجُلِ. وَقِيلَ لِمَجْنَبَتَيِ الْعَسْكَرِ جَنَاحَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ، وَسُمِّيَ جَنَاحُ الطَّائِرِ لِأَنَّهُ يَجْنَحُ بِهِ عِنْدَ الطيران، ولما كان المرغوب مِنْ ظُلْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِذَا ضَمَّ يَدَهُ إِلَى جناحه فتر رغبة وَرَبَطَ جَأْشُهُ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَضُمَّ يَدَهُ إِلَى جَنَاحِهِ لِيَقْوَى جَأْشُهُ وَلِتَظْهَرَ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْيَدِ. وَالْمُرَادُ إِلَى جَنْبِكَ تَحْتَ الْعَضُدِ. وَلِهَذَا قَالَ تَخْرُجْ فَلَوْ لَمْ يكن
(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٥٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute