لِمَنِ اعْتَبَرَ بِهَا مِنْ عَالِمِي زَمَانِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَدَلَّ ذِكْرُ مَرْيَمَ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَبِيَّةً إِذْ قُرِنَتْ مَعَهُمْ فِي الذِّكْرِ، وَمَنْ مَنَعَ تَنَبُّؤَ النِّسَاءِ قَالَ: ذُكِرَتْ لِأَجْلِ عِيسَى وَنَاسَبَ ذِكْرُهُمَا هُنَا قِصَّةَ زَكَرِيَّا وَزَوْجِهِ وَيَحْيَى لِلْقَرَابَةِ الَّتِي بَيْنَهُمْ.
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ أُمَّتُكُمْ خِطَابٌ لِمُعَاصِرِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَيْ إِنَّ مِلَّةَ الْإِسْلَامِ هِيَ مِلَّتُكُمُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا عَلَيْهَا لَا تَنْحَرِفُونَ عَنْهَا مِلَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هذِهِ إِشَارَةً إِلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ الْمَذْكُورُونَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ طَرِيقَتُكُمْ وَمِلَّتُكُمْ طَرِيقَةً وَاحِدَةً لَا اخْتِلَافَ فِيهَا فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، بَلْ مَا جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مَعْنَى أُمَّةً واحِدَةً مَخْلُوقَةً لَهُ تَعَالَى مَمْلُوكَةً لَهُ، فَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ النَّاسُ كُلُّهُمْ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِقِصَّةِ مَرْيَمَ وَابْنِهَا أَيْ وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ «١» بِأَنْ بُعِثَ لَهُمْ بِمِلَّةٍ وَكِتَابٍ، وَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أَيْ دَعَا الْجَمِيعَ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَعِبَادَتِهِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أُمَّتُكُمْ بِالرَّفْعِ خَبَرُ إِنَّ أُمَّةً واحِدَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ وَقَرَأَ الْحَسَنُ أُمَّتُكُمْ بِالنَّصْبِ بَدَلٌ مِنْ هذِهِ. وَقَرَأَ أَيْضًا هُوَ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ وَأَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَالْجُعْفِيُّ وَهَارُونَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَالزَّعْفَرَانِيِّ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً بِرَفْعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى أن أُمَّتُكُمْ وأُمَّةً واحِدَةً خَبَرُ إِنَّ أَوْ أُمَّةً واحِدَةً بَدَلٌ مِنْ أُمَّتُكُمْ بَدَلَ نَكِرَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ أُمَّةً واحِدَةً وَالضَّمِيرُ فِي وَتَقَطَّعُوا عَائِدٌ عَلَى ضَمِيرِ الْخِطَابِ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ أَيْ وَتَقَطَّعْتُمْ.
وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مَنْ أَقْبَحِ الْمُرْتَكَبَاتِ عَدَلَ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى لَفْظِ الْغَيْبَةِ كَأَنَّ هَذَا
(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩١.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute