للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ.

سَبَبُ نُزُولِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى قَوْلُ ابْنِ الزِّبَعْرَى حِينَ سَمِعَ إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «١» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ خَصِمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، أَلَيْسَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ، وَبَنُو مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى

الآية. وَقِيلَ: لَمَّا اعْتَرَضَ ابْنُ الزِّبَعْرَى قِيلَ لَهُمْ: أَلَسْتُمْ قوما عربا أو ما تَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى قَدْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ وَما تَعْبُدُونَ الْعُمُومَ فَلِذَلِكَ نَزَلَ قَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الْآيَةَ تَخْصِيصًا لِذَلِكَ الْعُمُومِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي يَكُونُ ابْنُ الزِّبَعْرَى رَامَ مُغَالَطَةً، فَأُجِيبُ بِأَنَّ مَنْ لِمَنْ يَعْقِلُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ فَبَطَلَ اعْتِرَاضُهُ.

والْحُسْنى الْخَصْلَةُ الْمُفَضَّلَةُ فِي الْحُسْنِ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، إِمَّا السَّعَادَةُ وَإِمَّا الْبُشْرَى بِالثَّوَابِ، وَإِمَّا التَّوْفِيقُ لِلطَّاعَةِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ مُبْعَدُونَ فَمَا بَعْدَهُ أَنَّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى لَا يَدْخُلُ النَّارَ.

وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: أَنَا مِنْهُمْ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها

وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الَّذِي يُحَسُّ مِنْ حَرَكَةِ الْأَجْرَامِ، وَهَذَا الْإِبْعَادُ وَانْتِفَاءُ سَمَاعِ صَوْتِهَا قِيلَ هُوَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: بَعْدَ دُخُولِهِمْ وَاسْتِقْرَارِهِمْ فِيهَا، وَالشَّهْوَةُ طَلَبُ النَّفْسِ اللَّذَّةَ.

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ صِفَةٌ لَهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي أَنَّهُ في


(١) سورة الأنبياء: ٢١/ ٩٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>