وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الَّذِي قَدْ تُعُورِفَ وَاعْتُقِدَ أَنَّ الْعَمَى عَلَى الْحَقِيقَةِ مَكَانُ الْبَصَرِ وَهُوَ أَنْ تُصَابَ الْحَدَقَةُ بِمَا يَطْمِسُ نُورَهَا، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْقَلْبِ اسْتِعَارَةٌ وَمَثَلٌ، فلما أريد إِثْبَاتُ مَا هُوَ خِلَافُ الْمُعْتَقَدِ مِنْ نِسْبَةِ الْعَمَى إِلَى الْقُلُوبِ حَقِيقَةً وَنَفْيِهِ عَنِ الْأَبْصَارِ احْتَاجَ هَذَا التَّصْوِيرُ إِلَى زِيَادَةِ تَعْيِينٍ وَفَضْلِ تَعْرِيفٍ لِتَقَرُّرِ أَنَّ مَكَانَ الْعَمَى هُوَ الْقُلُوبُ لَا الْأَبْصَارُ، كَمَا تَقُولُ: لَيْسَ الْمَضَاءُ لِلسَّيْفِ وَلَكِنَّهُ لِلِسَانِكَ الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ فَقَوْلُكُ: الَّذِي بَيْنَ فَكَّيْكَ تَقْرِيرٌ لِمَا ادَّعَيْتَهُ لِلِسَانِهِ، وَتَثْبِيتٌ لِأَنَّ مَحَلَّ الْمَضَاءِ هُوَ هُوَ لَا غَيْرُ وَكَأَنَّكَ قُلْتَ: مَا نَفَيْتَ الْمَضَاءَ عَنِ السَّيْفِ وَأَثْبَتَّهُ لِلِسَانِكَ فَلْتَةً وَلَا سَهْوًا مِنِّي وَلَكِنْ تَعَمَّدْتُ بِهِ إِيَّاهُ بِعَيْنِهِ تَعَمُّدًا انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ تَعَمَّدْتُ بِهِ إِيَّاهُ بِعَيْنِهِ تَعَمُّدًا فَصْلَ الضَّمِيرِ وَلَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ فَصْلِهِ، وَالصَّوَابُ وَلَكِنْ تَعَمَّدْتُهُ بِهِ كَمَا تَقُولُ السَّيْفُ ضَرَبْتُكَ بِهِ وَلَا تَقُولُ: ضَرَبْتُ بِهِ إِيَّاكَ، وَفَصْلُهُ فِي مَكَانِ اتِّصَالِهِ عُجْمَةٌ، وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ الْقَلْبَ قَدْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنِ الْخَاطِرِ، وَالتَّدْبِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «١» وَعِنْدَ قَوْمٍ أَنَّ مَحَلَّ الْفِكْرِ هُوَ الدِّمَاغُ فَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ هُوَ الصَّدْرُ.
وَالضَّمِيرُ فِي وَيَسْتَعْجِلُونَكَ لِقُرَيْشٍ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَذِّرُهُمْ نَقَمَاتِ اللَّهِ وَيُوعِدُهُمْ بِذَلِكَ دُنْيَا وَآخِرَةً وَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ، فَكَانَ اسْتِعْجَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ وَإِنْ مَا تَوَعَّدَتْنَا بِهِ لَا يَقَعُ وَإِنَّهُ لَا بَعْثَ وَفِي قوله وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أَيْ إِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، لَكِنْ لِوُقُوعِهِ أَجَلٌ لَا يَتَعَدَّاهُ. وَأَضَافَ الْوَعْدَ إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ الْمُخْبِرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْكَرَ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْمُتَوَعَّدِ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلِمَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ كَأَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْفَوْتَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مِيعَادِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ وَاللَّهُ عَزَّ وَعُلَا لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَمَا وَعَدَهُ لِيُصِيبَهُمْ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ وَهُوَ سُبْحَانُهُ حَلِيمٌ لَا يُعَجَّلُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى مِيعَادِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخُلْفُ دَسِيسَةَ الِاعْتِزَالِ.
وَقِيلَ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي النَّظْرَةِ وَالْإِمْهَالِ وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا التَّشَبُّهِ. فَقِيلَ:
فِي الْعَدَدِ أَيِ الْيَوْمُ عِنْدَ اللَّهِ أَلْفُ سَنَةٍ مِنْ عَدَدِكُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ»
فَالْمَعْنَى وَإِنْ طال الإمهال
(١) سورة ق: ٥٠/ ٣٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute