وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ وَكَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ أَشْيَاءُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَنْقُلُونَهَا وَهُمْ عَارِفُونَ بِبِلَادِهِمْ وَكَثِيرًا مَا يَمُرُّونَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهَا قَالَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَثًّا عَلَى السَّفَرِ لِيُشَاهِدُوا مَصَارِعَ الْكُفَّارِ فَيَعْتَبِرُوا، أَوْ يَكُونُوا قَدْ سَافَرُوا وَشَاهَدُوا فَلَمْ يَعْتَبِرُوا فَجُعِلُوا كَأَنْ لَمْ يُسَافِرُوا وَلَمْ يَرَوْا. وَقَرَأَ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ: فَيَكُونُ بِالْيَاءِ وَالْجُمْهُورِ بِالتَّاءِ فَتَكُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَعَلَى جَوَابِ التَّقْرِيرِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقِيلَ: عَلَى جَوَابِ النَّفْيَ، وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ أَنْ وَيَنْسَبِكُ مِنْهَا وَمِنَ الْفِعْلِ مَصْدَرٌ يُعْطَفُ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الصَّرْفِ إِذْ مَعْنَى الْكَلَامِ الْخَبَرُ صَرَفُوهُ عَنِ الْجَزْمِ على العطف على يَسِيرُوا، وموردوه إِلَى أَخِي الْجَزْمِ وَهُوَ النَّصْبُ هَذَا مَعْنَى الصَّرْفِ عِنْدَهُمْ، وَمَذْهَبُ الْجَرْمِيِّ أَنَّ النَّصْبَ بِالْفَاءِ نَفْسِهَا وَإِسْنَادُ الْعَقْلِ إِلَى الْقَلْبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَلَا يُنْكَرُ أَنَّ لِلدِّمَاغِ بِالْقَلْبِ اتِّصَالًا يَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْلِ إِذَا فَسَدَ الدِّمَاغُ وَمُتَعَلِّقُ يَعْقِلُونَ بِها مَحْذُوفٌ أَيْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ السَّابِقَةِ حين كذبوا أنبياءهم ويَعْقِلُونَ مَا يَجِبُ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَكَذَلِكَ مَفْعُولُ يَسْمَعُونَ أَيْ يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ تِلْكَ الْأُمَمِ أَوْ مَا يَجِبُ سَمَاعُهُ مِنَ الْوَحْيِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَإِنَّها ضَمِيرُ الْقِصَّةِ وَحَسُنَ التَّأْنِيثُ هُنَا وَرَجَّحَهُ كَوْنُ الضَّمِيرِ وَلِيَهُ فِعْلٌ بِعَلَامَةِ التَّأْنِيثِ وَهِيَ التَّاءُ فِي لَا تَعْمَى وَيَجُوزُ فِي الْكَلَامِ التَّذْكِيرُ وَقَرَأَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا تَعْمَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا يُفَسِّرُهُ الْأَبْصارُ وَفِي تَعْمَى رَاجِعٌ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الَّذِي يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ مَحْصُورٌ، وَلَيْسَ هَذَا وَاحِدًا مِنْهَا وَهُوَ فِي بَابِ رُبَّ وَفِي بَابِ نِعْمَ. وَبِئْسَ، وَفِي بَابِ الْأَعْمَالِ، وَفِي بَابِ الْبَدَلِ، وَفِي باب المبتدأ وَالْخَبَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا قَرَّرَ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِهِ. وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ يُفَسِّرُ الضَّمِيرُ فِيهَا الْمُفْرَدَ وَفِي ضَمِيرِ الشَّأْنِ وَيُفَسَّرُ بِالْجُمْلَةِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ السِّتَّةِ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ وَالْمَعْنَى أَنَّ أَبْصَارَهُمْ سَالِمَةٌ لَا عَمَى بِهَا، وَإِنَّمَا الْعَمَى بِقُلُوبِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَبْصَارَ قَدْ تَعْمَى لَكِنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهَا لَيْسَ الْعَمَى الْحَقِيقِيَّ وَإِنَّمَا هُوَ ثَمَرَةُ الْبَصَرِ وَهُوَ التَّأْدِيَةُ إِلَى الْفِكْرَةِ فِيمَا يُشَاهِدُ الْبَصَرُ لَكِنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَوُصِفَتْ الْقُلُوبُ بِالَّتِي فِي الصُّدُورِ. قَالَ ابن عطبة مُبَالَغَةٌ كَقَوْلِهِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «١» وَكَمَا تَقُولُ نَظَرْتُ إِلَيْهِ بعيني.
(١) سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ٣/ ١٦٧.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute