إِذْ يُجَارِي الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَيِّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ يُقَالُ لَهُمْ لَا تَدْعُوا أَوْ هُمْ أَحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ، أَيْ لَا تَقْتَصِرُوا عَلَى حُزْنٍ وَاحِدٍ بَلِ احْزَنُوا حُزْنًا كَثِيرًا وَكَثْرَتُهُ إِمَّا لِدَيْمُومَةِ الْعَذَابِ فَهُوَ متجددا دَائِمًا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَنْوَاعٌ وَكُلُّ نَوْعٍ يَكُونُ مِنْهُ ثُبُورٌ لِشِدَّتِهِ وَفَظَاعَتِهِ. وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ ثُبُوراً بِفَتْحِ الثَّاءِ فِي ثَلَاثَتِهَا وفعول بفتح الواو فِي الْمَصَادِرِ قَلِيلٌ نَحْوُ الْبَتُولِ.
وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مَا صَرَفَكَ. كَأَنَّهُمْ دَعَوْا بِمَا فَعَلُوا فَقَالُوا:
وَاصَرْفَاهُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ: ووا ندامتاه.
رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُنَادِي بِذَلِكَ إِبْلِيسُ يَقُولُ:
وا ثبوراه حَتَّى يُكْسَى حُلَّةً مِنْ جَهَنَّمَ يَضَعُهَا عَلَى جَبِينِهِ وَيَسْحَبُهَا مِنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ يَتْبَعُهُ فِي الْقَوْلِ أَتْبَاعُهُ فَيَقُولُ لَهُمْ خُزَّانُ جَهَنَّمَ لَا تَدْعُوا الْآيَةِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي ابْنِ خَطَلٍ وَأَصْحَابِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِذَلِكَ إِلَى النَّارِ وَأَحْوَالِ أَهْلِهَا. وَقِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَنْزِ فِي قَوْلِهِمْ. وَقِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْقُصُورِ الْمَجْعُولَةِ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَقْدِيرِ المشيئة وخَيْرٌ هُنَا لَيْسَتْ تَدُلُّ عَلَى الْأَفْضَلِيَّةِ بَلْ هِيَ عَلَى مَا جَرَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ فِي بَيَانِ فَضْلِ الشَّيْءِ وَخُصُوصِيَّتِهِ بِالْفَضْلِ دُونَ مُقَابِلِهِ كَقَوْلِهِ:
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَكَقَوْلِ الْعَرَبِ: الشَّقَاءُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمِ السَّعَادَةُ. وَكَقَوْلِهِ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ «١» وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْقِيفِ وَالتَّوْبِيخِ.
قال ابن عطية: ومن حَيْثُ كَانَ الْكَلَامُ اسْتِفْهَامًا جَازَ فِيهِ مَجِيءُ لَفْظِهِ لِلتَّفْضِيلِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي الْخَيْرِ لِأَنَّ الْمُوقِفَ جَائِزٌ لَهُ أَنْ يُوقِفَ مُحَاوِرَهُ عَلَى مَا شَاءَ لِيَرَى هَلْ يُجِيبُهُ بِالصَّوَابِ أَوْ بِالْخَطَأِ، وَإِنَّمَا مَنَعَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ التَّفْضِيلِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً، وَأَمَّا إِذَا كَانَ اسْتِفْهَامًا فَذَلِكَ سَائِغٌ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ يُخَالِفُهُ قَوْلِهِ:
فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ وَقَوْلُهُ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلِهِمْ: الْعَسَلُ أَحْلَى مِنَ الْخَلِّ إِلَّا إِنْ تَقَيَّدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ وَاضِحًا الْحُكْمُ فِيهِ لِلسَّامِعِ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِجُ فِي ذِهْنِهِ وَلَا يَتَرَدَّدُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ. وَضَمِيرُ الَّتِي مَحْذُوفٌ أَيْ وعدها وضمير ما يَشاؤُنَ كذلك أي ما يشاؤونه وفي قوله ما يشاؤونه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْمُرَادَاتِ بِأَسْرِهَا لَا تَكُونُ إِلَّا فِي
(١) سورة يوسف: ١٢/ ٣٣.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute