أَنَّ ذَلِكَ جَارٍ عَلَى مَا شَاءَ اللَّهُ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لَا التَّكْرُمَةِ، وَلَا الْهَوَانِ. وَمَعْنَى فَهُوَ يُخْلِفُهُ: أَيْ يَأْتِي بِالْخَلَفِ وَالْعِوَضِ مِنْهُ، وَكَانَ لَفْظُ مِنْ عِبَادِهِ مُشْعِرَةً بِالْمُؤْمِنِينَ، وَكَذَلِكَ الْخِطَابُ فِي وَما أَنْفَقْتُمْ: يَقْصِدُ هَنَا رِزْقَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مَسَاقُ.
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ: مَسَاقَ مَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ، بَلْ مَسَاقَ الْوَعْظِ وَالتَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَضِّ عَلَى النَّفَقَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِخْلَافِ مَا أَنْفَقَ، إِمَّا مُنْجَزًا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا مُؤَجَّلًا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِقَصْدِ وَجْهِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ مَا يُقِيمُهُ فليقتصد، وَأَنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ، وَلَعَلَّ مَا قُسِّمَ لَهُ قَلِيلٌ، وَهُوَ يُنْفِقُ نَفَقَةَ الْمُوَسَّعِ عَلَيْهِ، فَيُنْفِقُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ، ثُمَّ يَبْقَى طُولَ عُمْرِهِ فِي فَقْرٍ وَلَا يَتَأَتَّى. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ: فِي الْآخِرَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَا كَانَ مِنْ خَلَفٍ فَهُوَ مِنْهُ. وَجَاءَ الرَّازِقِينَ جَمْعًا، وَإِنْ كَانَ الرَّازِقُ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ: الرَّجُلُ يَرْزُقُ عِيَالَهُ، وَالْأَمِيرُ جُنْدَهُ، وَالسَّيِّدُ عَبْدَهُ، وَالرَّازِقُونَ جُمِعَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، لَكِنْ أُولَئِكَ يُرْزَقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ، وَمَلَّكَهُمْ فيه التصرف، ولله تَعَالَى يَرْزُقُ مِنْ خَزَائِنَ لَا تَفْنَى، وَمِنْ إِخْرَاجٍ مِنْ عَدَمٍ إِلَى وُجُودٍ.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً: أَيِ الْمُكَذِّبِينَ، مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ تَأَخَّرَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
نَحْشُرُهُمْ، نَقُولُ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي الْأَنْعَامِ «١» . وَخِطَابُ الْمَلَائِكَةِ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ، وَقَدْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُنَزَّهُونَ بَرَاءٌ مِمَّا وُجِّهَ عَلَيْهِمْ مِنَ السُّؤَالِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ تَوْقِيفِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ عُلِمَ سُوءُ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَأَنَّ مَنْ عَبَدُوهُ مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ. وهؤُلاءِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ كانُوا يَعْبُدُونَ، وإِيَّاكُمْ مَفْعُولُ يَعْبُدُونَ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ انْفَصَلَ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْخِطَابِ، وَلِكَوْنِ يَعْبُدُونَ فَاصِلَةً. فَلَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ مُنْفَصِلًا، كَانَ التَّرْكِيبُ يَعْبُدُونَكُمْ، وَلَمْ تَكُنْ فَاصِلَةً. وَاسْتُدِلَّ بِتَقْدِيمِ هَذَا الْمَعْمُولِ عَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ خَبَرِ كَانَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ جُمْلَةً، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ، أَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ السَّرَّاجِ، وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ، وَكَذَلِكَ مَنَعُوا تَوَسُّطَهُ إذا كان جملة.
قال ابْنُ السَّرَّاجِ: الْقِيَاسُ جَوَازُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُسْمَعْ. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مُؤْذِنٌ بِتَقْدِيمِ الْعَامِلِ، فَكَمَا جَازَ تَقْدِيمُ إِيَّاكُمْ، جَازَ تَقْدِيمُ يَعْبُدُونَ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَيْسَتْ مُطَّرِدَةً، وَالْأَوْلَى مَنْعُ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَدُلَّ عَلَى جَوَازِهِ سَمَاعٌ مِنَ الْعَرَبِ. وَلَمَّا أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته مِنْ كُلِّ سُوءٍ، كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: سُبْحانَكَ، ثُمَّ انْتَسَبُوا إِلَى مُوَالَاتِهِ دُونَ أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ، أَيْ أَنْتَ وَلِيُّنا، إِذْ لَا مُوَالَاةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ.
(١) سورة الأنعام: ٦/ ١٢٨.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute