مِنِ انْتِفَاءِ الْأَكْلِ انْتِفَاءُ الشِّبَعِ، وَلَا يَنْعَكِسُ، فَلَوْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لَكَانَ التَّرْكِيبُ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا إِعْيَاءٌ وَلَا مَشَقَّةٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ مُخَالَفَةَ الْجَنَّةِ لِدَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَمَاكِنَهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ الْمَشَاقُّ وَالْمَتَاعِبُ كَالْبَرَارِي وَالصَّحَارِي، وَمَوْضِعٌ يُمَسُّ فِيهِ الْإِعْيَاءُ كَالْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ الَّتِي فِيهَا الصِّغَارُ، فَقَالَ: لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَظَانَّ الْمَتَاعِبِ لِدَارِ الدُّنْيَا وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ: أَيْ وَلَا نَخْرُجُ مِنْهَا إِلَى مَوْضِعِ نَصَبٍ وَنَرْجِعُ إِلَيْهَا فَيَمَسُّنَا فِيهَا الْإِعْيَاءُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لُغُوبٌ، بِضَمِّ اللَّامِ،
وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالسُّلَمِيُّ: بِفَتْحِهَا.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَا يُلْغَبُ بِهِ، كَالْفُطُورِ وَالسَّحُورِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ، كَأَنَّهُ لُغُوبٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَوْتٌ مَائِتٌ. وَقَالَ صَاحِبُ الَّلَوَامِحِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْقَبُولِ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ صِفَةً لِمُضْمَرٍ، أَيْ أَمْرٌ لُغُوبٌ، وَاللُّغُوبُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا لِلْأَحْمَقِ. قَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنَّ فُلَانًا لُغُوبٌ جَاءَتْ كِتَابِي فَاحْتَقَرَهَا، أَيْ أَحْمَقُ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ أَنَّثْتَهُ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ صَحِيفَةً؟
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ، وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ، إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً، قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.
لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَقَرَّهُمْ، ذَكَرَ حَالَ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ هُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ مُقَابِلُوهُمْ، لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ: أَيْ لَا يُجْهَزُ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا بَطَلَتْ حَوَاسُّهُمْ فَاسْتَرَاحُوا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَيَمُوتُوا، بِحَذْفِ النُّونِ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّفْيِ، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيِ النَّصْبِ فَالْمَعْنَى انْتَفَى الْقَضَاءُ عَلَيْهِمْ، فَانْتَفَى مُسَبَّبُهُ، أَيْ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَمُوتُونَ، كَقَوْلِكَ: مَا تأتينا فتحدثنا، أي ما يَكُونُ حَدِيثٌ، انْتَفَى الْإِتْيَانُ، فَانْتَفَى الْحَدِيثُ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْنَى النَّصْبِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا تَأْتِينَا مُحَدِّثًا، إِنَّمَا تَأْتِي وَلَا تُحَدِّثُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى هُنَا:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute