للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَقْدِيرُهُ أَشَدُّ. فَعَلَى أَمْ مَنْ هُوَ تَقْرِيرٌ وَاحِدٌ وَنَظِيرُهُ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «١» . قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَشَدُّ خَلْقًا يَحْتَمِلُ أَقْوَى خَلْقًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: شَدِيدُ الْخَلْقِ، وَفِي خَلْقِهِ شِدَّةٌ، وَأَصْعَبُ خَلْقًا. وَأَشَدُّ خَلْقًا وَأَشَقُّهُ يَحْتَمِلُ أَقْوَى خَلْقًا مِنْ قَوْلِهِمْ: شَدِيدُ الْخَلْقِ، وَفِي خَلْقِهِ شِدَّةٌ، عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالنَّشْأَةَ الْأُخْرَى. وَإِنَّ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ خَلْقُ هَذِهِ الْخَلَائِقِ الْعَظِيمَةِ، وَلَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِ اخْتِرَاعُهَا، كَانَ خَلْقُ الشر عَلَيْهِ أَهْوَنَ. وَخَلْقُهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ، إِمَّا شَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّعْفِ وَالرَّخَاوَةِ، لِأَنَّ مَا يُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِالصَّلَابَةِ وَالْقُوَّةِ أَوِ احْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الطِّينَ اللَّازِبَ الَّذِي خُلِقُوا مِنْهُ تُرَابٌ. فَمِنْ أَيْنَ اسْتَنْكَرُوا أَنْ يُخْلَقُوا مِنْ تراب مثله؟ قالوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً، وَهَذَا الْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ مَا يَتْلُوهُ مِنْ ذِكْرِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ. انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ. وَقِيلَ: أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، كَقَوْلِهِ: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً «٢» ، وَقَوْلِهِ:

وكانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً «٣» ، وَأَضَافَ: الْخَلْقَ مِنَ الطِّينِ إِلَيْهِمْ، وَالْمَخْلُوقُ مِنْهُ هُوَ أَبُوهُمْ آدَمُ، إِذْ كَانُوا نَسْلَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: خُلِقَ ابْنُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ وَمَاءٍ وَنَارٍ وَهَوَاءٍ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا خُلِطَ صَارَ طِينًا لَازِبًا يَلْزَمُ مَا جَاوَرَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اللَّازِبِ بِالْجَرِّ، أَيِ الْكَرِيمِ الْجَيِّدِ.

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بَلْ عَجِبْتَ، بِتَاءِ الْخِطَابِ، أَيْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْخَلَائِقِ الْعَظِيمَةِ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْكَ وَمِنْ تَعَجُّبِكَ، وَمِمَّا تُرِيهِمْ مِنْ آثَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ، أَوْ عَجِبْتَ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَهُمْ يَسْخَرُونَ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ. أَوْ عَجِبْتَ مِنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَعَمَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَأَنْ يَكُونُوا كافرين مع ما جئتهم بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ سَعْدَانَ، وَابْنُ مِقْسَمٍ:

بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَرُوِيَتْ عَنْ عَلِيٍّ

، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، والنخعي، وابن وثاب، وطلحة، وَشَقِيقٍ، وَالْأَعْمَشِ. وَأَنْكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ: اللَّهُ لَا يَعْجَبُ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ شُرَيْحٌ مُعْجَبًا بِعِلْمِهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ، يَعْنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْعَجَبُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ رَوْعَةٌ تَعْتَرِي الْمُتَعَجِّبَ مِنَ الشَّيْءِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إِسْنَادُ الْعَجَبِ إِلَى الله تعالى، وتؤول عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ يُظْهِرُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُتَعَجَّبِ مِنْهُ مِنْ تَعْظِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ حَتَّى يَصِيرَ النَّاسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنْهُ. فَالْمَعْنَى: بَلْ عَجِبْتُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ وَسُوءِ عَمَلِهِمْ، وَجَعَلْتُهَا لِلنَّاظِرِينَ فِيهَا وَفِيمَا اقْتَرَنَ فِيهَا مِنْ شَرْعِي وَهُدَايَ مُتَعَجَّبًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَيْ بلغ من


(١) سورة النازعات: ٧٩/ ٢٧.
(٢) سورة ق: ٥٠/ ٣٦.
(٣) سورة فاطر: ٣٥/ ٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>